الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الشُّفْعَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: قوله: (كتاب الشفعة. بسم الله الرحمن الرحيم. السلم في الشفعة) كذا للمستملي وسقط ما سوى البسملة للباقين، وثبت للجميع " باب الشفعة فيما لم يقسم". والشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل من الإعانة. وفي الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي بمثل العوض المسمى. ولم يختلف العلماء في مشروعيتها إلا ما نقل عن أبي بكر الأصم من إنكارها. *3* الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الواحد) هو ابن زياد، وقد تقدمت الإشارة إلى روايته في " باب بيع الأرض " من كتاب البيوع والاختلاف في قوله: (كل ما لم يقسم) أو " كل مال لم يقسم " واللفظ الأول يشعر باختصاص الشفعة بما يكون قابلا للقسمة بخلاف الثاني. قوله: (فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة) أي بينت مصارف الطرق وشوارعها، كأنه من التصرف أو من التصريف. وقال ابن مالك: معناه خلصت وبانت، وهو مشتق من الصرف بكسر المهملة الخالص من كل شيء. وهذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة، وقد أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير عن جابر بلفظ " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه: فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به " وقد تضمن هذا الحديث ثبوت الشفعة في المشاع، وصدره يشعر بثبوتها في المنقولات، وسياقه يشعر باختصاصها بالعقار وبما فيه العقار. وقد أخذ بعمومها في كل شيء مالك في رواية، وهو قول عطاء. وعن أحمد تثبت في الحيوانات دون غيرها من المنقولات وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا " الشفعة في كل شيء " ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. وأخرج الطحاوي له شاهدا من حديث جابر بإسناد لا بأس برواته. قال عياض: لو اقتصر في الحديث على القطعة الأولى لكانت فيه دلالة على سقوط شفعة الجوار، ولكن أضاف إليها صرف الطرق، والمترتب على أمرين لا يلزم منه ترتبه على أحدهما. واستدل به على عدم دخول الشفعة فيما لا يقبل القسمة، وعلى ثبوتها لكل شريك. وعن أحمد لا شفعة لذمي. وعن الشعبي: لا شفعة لمن لم يسكن المصر. (تنبيهان) : الأول اختلف على الزهري في هذا الإسناد فقال مالك عنه عن أبي سلمة وابن المسيب مرسلا كذا رواه الشافعي وغيره ورواه أبو عاصم والماجشون عنه فوصله بذكر أبي هريرة أخرجه البيهقي، ورواه ابن جريج عن الزهري كذلك لكن قال عنهما أو عن أحدهما أخرجه أبو داود، والمحفوظ روايته عن أبي سلمة عن جابر موصولا وعن ابن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا وما سوى ذلك شذوذ ممن رواه. ويقوى طريقه عن أبي سلمة عن جابر متابعة يحيى بن أبي كثير له عن أبي سلمة عن جابر ثم ساقه كذلك. الثاني: حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أن قوله " فإذا وقعت الحدود الخ " مدرج من كلام جابر، وفيه نظر لأن الأصل أن كل ما ذكر في الحديث فهو منه حتى يثبت الإدراج بدليل، وقد نقل صالح بن أحمد عن أبيه أنه رجح رفعها. *3* وَقَالَ الْحَكَمُ إِذَا أَذِنَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهْوَ شَاهِدٌ لَا يُغَيِّرُهَا فَلَا شُفْعَةَ لَهُ الشرح: قوله: (باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع) أي هل تبطل بذلك شفعته أم لا؟ وسيأتي في كتاب ترك الحيل مزيد بيان لذلك. قوله: (وقال الحكم: إذا أذن له قبل البيع فلا شفعة له. وقال الشعبي من بيعت شفعته وهو شاهد لا يغيرها فلا شفعة له) أما قول الحكم فوصله ابن أبي شيبة بلفظ " إذا أذن المشتري في الشراء فلا شفعة له " وأما قول الشعبي فوصله ابن أبي شيبة أيضا بنحوه. الحديث: حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا سَعْدُ ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ فَقَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا فَقَالَ الْمِسْوَرُ وَاللَّهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا فَقَالَ سَعْدٌ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةً أَوْ مُقَطَّعَةً قَالَ أَبُو رَافِعٍ لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَ مِائَةِ دِينَارٍ فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ الشرح: قوله: (عن عمرو بن الشريد) في رواية سفيان الآتية في ترك الحيل عن إبراهيم بن ميسرة " سمعت عمرو بن الشريد " والشريد بفتح المعجمة وزن طويل صحابي شهير، وولده من أوساط التابعين، ووهم من ذكره في الصحابة، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. وقد أخرج الترمذي معلقا والنسائي وابن ماجة هذا الحديث من وجه آخر عنه عن أبيه ولم يذكر القصة، فيحتمل أن يكون سمعه من أبيه ومن أبي رافع، قال الترمذي: سمعت محمدا يعني البخاري يقول: كلا الحديثين عندي صحيح. قوله: (وقفت على سعد بن أبي وقاص فجاء المسور بن مخرمة فوضع يده على إحدى منكبي) أي رواية سفيان المذكورة مخالفة لهذا يأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قوله: (ابتع مني بيتي في دارك) أي الكائنين في دارك. قوله: (فقال المسور: والله لتبتاعنهما) بين سفيان في روايته أن أبا رافع سأل المسور أن يساعده على ذلك. قوله: (أربعة آلاف) في رواية سفيان " أربعمائة " وفي رواية الثوري في ترك الحيل " أربعمائة مثقال " وهو يدل على أن المثقال إذ ذاك كان بعشرة دراهم. قوله: (منجمة أو مقطعة) شك من الراوي والمراد مؤجلة على أقساط معلومة. قوله: (الجار أحق بسقبه) بفتح المهملة والقاف بعدها موحدة، والسقب بالسين المهملة وبالصاد أيضا ويجوز فتح القاف وإسكانها: القرب والملاصقة. ووقع في حديث جابر عند الترمذي " الجار أحق بسقبه ينتظر به إذا كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا " قال ابن بطال: استدل به أبو حنيفة وأصحابه على إثبات الشفعة للجار، وأوله غيرهم على أن المراد به الشريك بناء على أن أبا رافع كان شريك سعد في البيتين ولذلك دعاه إلى الشراء منه، قال: وأما قولهم إنه ليس في اللغة ما يقتضي تسمية الشريك جارا فمردود، فإن كل شيء قارب شيئا قيل له جار، وقد قالوا لامرأة الرجل جارة لما بينهما من المخالطة، انتهى. وتعقبه ابن المنير بأن ظاهر الحديث أن أبا رافع كان يملك بيتين من جملة دار سعد لا شقصا شائعا من منزل سعد، وذكر عمر بن شبة أن سعدا كان اتخذ دارين بالبلاط متقابلتين بينهما عشرة أذرع وكانت التي عن يمين المسجد منهما لأبي رافع فاشتراها سعد منه. ثم ساق حديث الباب. فاقتضى كلامه أن سعدا كان جارا لأبي رافع قبل أن يشتري منه داره لا شريكا. وقال بعض الحنفية: يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته ومجازه أن يقولوا بشفعة الجار لأن الجار حقيقة في المجاور مجاز في الشريك. وأجيب بأن محل ذلك عند التجرد، وقد قامت القرينة هنا على المجاز فاعتبر للجمع بين حديثي جابر وأبي رافع، فحديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع مصروف الظاهر اتفاقا لأنه يقتضي أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من الشريك، والذين قالوا بشفعة الجار قدموا الشريك مطلقا ثم المشارك في الطريق. ثم الجار على من ليس بمجاور، فعلى هذا فيتعين تأويل قوله " أحق " بالحمل على الفضل أو التعهد ونحو ذلك، واحتج من لم يقل بشفعة الجوار أيضا بأن الشفعة ثبتت على خلاف الأصل لمعنى معدوم في الجار وهو أن الشريك ربما دخل عليه شريكه فتأذى به فدعت الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقص قيمة ملكه، وهذا لا يوجد في المقسوم. والله أعلم.
|