الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب فضل الغسل يوم الجمعة) قال الزين بن المنير: لم يذكر الحكم لما وقع فيه من الخلاف، واقتصر على الفضل لأن معناه الترغيب فيه وهو القدر الذي تتفق الأدلة على ثبوته. قوله: (وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء) اعترض أبو عبد الملك فيما حكاه ابن التين على هذا الشق الثاني من الترجمة فقال: ترجم هل على الصبي أو النساء جمعة؟ وأورد " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وليس فيه ذكر وجوب شهود ولا غيره، وأجاب ابن التين بأنه أراد سقوط الوجوب عنهم، أما الصبيان فبالحديث الثالث في الباب حيث قال " على كل محتلم " فدل على أنها غير واجبة على الصبيان، قال: وقال الداودي فيه دليل على سقوطها عن النساء لأن الفروض تجب عليهن في الأكثر بالحيض لا بالاحتلام، وتعقب بأن الحيض في حقهن علامة للبلوغ كالاحتلام، وليس الاحتلام مختصا بالرجال وإنما ذكر في الخبر لكونه الغالب وإلا فقد لا يحتلم الإنسان أصلا ويبلغ بالإنزال أو السن وحكمه حكم المحتلم. وقال الزين بن المنير: إنما أشار إلى أن غسل الجمعة شرع للرواح إليها كما دلت عليه الأخبار، فيحتاج إلى معرفة من يطلب رواحه فيطلب غسله، واستعمل الاستفهام في الترجمة للإشارة إلى وقوع الاحتمال في حق الصبي في عموم قوله " أحدكم " لكن تقيده بالمحتلم في الحديث الآخر يخرجه، وأما النساء فيقع فيهن الاحتمال بأن يدخلن في " أحدكم " بطريق التبع، وكذا احتمال عموم النهي في منعهن المساجد، لكن تقيده بالليل يخرج الجمعة ا هـ. ولعل البخاري أشار بذكر النساء إلى ما سيأتي قريبا في بعض طرق حديث نافع، وإلى الحديث المصرح بأن لا جمعة على امرأة ولا صبي لكونه ليس على شرطه وإن كان الإسناد صحيحا وهو عند أبي داود من حديث طارق بن شهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ورجاله ثقات، لكن قال أبو داود: لم يسمع طارق من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه رآه ا هـ. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق طارق عن أبي موسى الأشعري، قال الزين بن المنير: ونقل عن مالك أن من يحضر الجمعة من غير الرجال أن حضرها لابتغاء الفضل شرع له الغسل وسائر آداب الجمعة، وإن حضرها لأمر اتفاقي فلا. ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ الشرح: حديث نافع عن ابن عمر أخرجه من حديث مالك عنه بلفظ " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " وقد رواه ابن وهب عن مالك أن نافعا حدثهم فذكره، أخرجه البيهقي، والفاء للتعقيب، وظاهره أن الغسل يعقب المجيء، وليس ذلك المراد وإنما التقدير إذا أراد أحدكم، وقد جاء مصرحا به في رواية الليث عن نافع عند مسلم ولفظه " إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " ونظير ذلك قوله تعالى ويقوي رواية الليث حديث أبي هريرة الآتي قريبا بلفظ " من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " فهو صريح في تأخير الرواح عن الغسل، وعرف بهذا فساد قول من حمله على ظاهره واحتج به على أن الغسل لليوم لا للصلاة، لأن الحديث واحد ومخرجه واحد، وقد بين الليث في روايته المراد، وقواه حديث أبي هريرة، ورواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدا فقد اعتنى بتخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من طريق سبعين نفسا رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد لغرض اقتضى ذلك فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفسا، فما يستفاد منه هنا ذكر سبب الحديث، ففي رواية إسماعيل بن أمية عن نافع عند أبي عوانة وقاسم بن أصبغ " كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاءوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من جاء منكم الجمعة فليغتسل " ومنها ذكر محل القول، ففي رواية الحكم بن عتيبة عن نافع عن ابن عمر " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعواد هذا المنبر بالمدينة يقول " أخرجه يعقوب الجصاص في فوائده من رواية اليسع بن قيس عن الحكم، وطريق الحكم عند النسائي وغيره من رواية شعبة عنه بدون هذا السياق بلفظ حديث الباب إلا قوله " جاء " فعنده " راح " وكذا رواه النسائي من رواية إبراهيم بن طهمان عن أيوب ومنصور ومالك ثلاثتهم عن نافع، ومنها ما يدل على تكرار ذلك ففي رواية صخر بن جويرية عن نافع عند أبي مسلم الكجي بلفظ " كان إذا خطب يوم الجمعة قال " الحديث. ومنها زيادة في المتن، ففي رواية عثمان بن واقد عن نافع عند أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان في صحاحهم بلفظ " من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل " ورجاله ثقات، لكن قال البزار: أخشى أن يكون عثمان بن واقد وهم فيه. ومنها زيادة في المتن والإسناد أيضا، أخرجه أبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من طرق عن مفضل بن فضالة عن عياش بن عباس الكثباني عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن ابن عمر عن حفصة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجمعة واجبة على كل محتلم، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل " قال الطبراني في الأوسط: لم يروه عن نافع بزيادة حفصة إلا بكير، ولا عنه إلا عياش تفرد به مفضل. قلت: رواته ثقات، فإن كان محفوظا فهو حديث آخر ولا مانع أن يسمعه ابن عمر من النبي صلى الله عليه وسلم ومن غيره من الصحابة، فسيأتي في ثاني أحاديث الباب من رواية ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما مع اختلاف المتون، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالك في أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث والجمهور قالوا: يجزئ من بعد الفجر، ويشهد لهم حديث ابن عباس الآتي قريبا. وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عمن اغتسل ثم أحدث هل يكفيه الوضوء؟ فقال: نعم. ولم أسمع فيه أعلى من حديث ابن أبزي، يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه وله صحبة " أنه كان يغتسل يوم الجمعة ثم يحدث فيتوضأ ولا يعيد الغسل " ومقتضى النظر أن يقال: إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة والتنظيف رعاية الحاضرين من التأذي بالرائحة الكريهة، فمن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، ولعل هذا هو الذي لحظه مالك فشرط اتصال الذهاب بالغسل ليحصل الأمن مما يغاير التنظيف والله أعلم. قال ابن دقيق العيد: ولقد أبعد الظاهري إبعادا يكاد أن يكون مجزوما ببطلانه حيث لم يشترط تقدم الغسل على إقامة صلاة الجمعة حتى لو اغتسل قبل الغروب كفى عنده تعلقا بإضافة الغسل إلى اليوم، يعني كما سيأتي في حديث الباب الثالث، وقد تبين من بعض الروايات أن الغسل لإزالة الروائح الكريهة يعني كما سيأتي من حديث عائشة بعد أبواب، قال: وفهم منه أن المقصود عدم تأذي الحاضرين وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة، وكذلك أقول لو قدمه بحيث لا يتحصل هذا المقصود لم يعتد به. والمعنى إذا كان معلوما كالنص قطعا أو ظنا مقارنا للقطع فاتباعه وتعليق الحكم به أولى من اتباع مجرد اللفظ. قلت: وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أن من اغتسل بعد الصلاة لم يغتسل للجمعة ولا فعل ما أمر به. وادعى ابن حزم أنه قول جماعة من الصحابة والتابعين وأطال في تقرير ذلك بما هو بصدد المنع، والرد يفضي إلى التطويل بما لا طائل تحته، ولم يورد عن أحد ممن ذكر التصريح بإجزاء الاغتسال بعد صلاة الجمعة، وإنما أورد عنهم ما يدل على أنه لا يشترط اتصال الغسل بالذهاب إلى الجمعة، فأخذ هو منه أنه لا فرق بين ما قبل الزوال أو بعده والفرق بينهما ظاهر كالشمس، والله أعلم. واستدل من مفهوم الحديث على أن الغسل لا يشرع لمن لم يحضر الجمعة، وقد تقدم التصريح بمقتضاه في آخر رواية عثمان بن واقد عن نافع، وهذا هو الأصح عند الشافعية، وبه قال الجمهور خلافا لأكثر الحنفية، وقوله فيه " الجمعة " المراد به الصلاة أو المكان الذي تقام فيه، وذكر المجيء لكونه الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورا للجامع أو مقيما به، واستدل به على أن الأمر لا يحمل على الوجوب إلا بقرينه لقوله كان يأمرنا مع أن الجمهور حملوه على الندب كما سيأتي في الكلام على الحديث الثالث، وهذا بخلاف صيغة أفعل فإنها على الوجوب حتى تظهر قرينة على الندب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ قَالَ إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ فَقَالَ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ الشرح: حديث مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن عمر بن الخطاب بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة " الحديث أورده من رواية جويرية ابن أسماء عن مالك وهو عند رواة الموطأ عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر، فحكى الإسماعيلي عن البغوي بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد عن مالك عن عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية ا هـ. وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي، أخرجه أحمد ابن حنبل عنه بذكر ابن عمر. وقال الدار قطني في الموطأ رواه جماعة من أصحاب مالك الثقات عنه خارج الموطأ موصولا عنهم فذكر هؤلاء الثلاثة ثم قال: وأبو عاصم النبيل وإبراهيم بن طهمان والوليد بن مسلم وعبد الوهاب بن عطاء، وذكر جماعة غيرهم في بعضهم مقال، ثم ساق أسانيدهم إليهم بذلك، وزاد ابن عبد البر فيمن وصله عن مالك القعنبي في رواية إسماعيل بن إسحاق القاضي عنه، ورواه عن الزهري موصولا يونس بن يزيد عند مسلم ومعمر عند أحمد وأبو أويس عند قاسم بن أصبغ، ولجويرية بن أسماء فيه إسناد آخر أعلى من روايته عن مالك أخرجه الطحاوي وغيره من رواية أبي غسان عنه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. قوله: (بينما) أصله " بين " وأشبعت الفتحة، وقد تبقى بلا إشباع ويزاد فيها " ما " فتصير " بينما " وهي رواية يونس، وهي ظرف زمان فيه معنى المفاجأة. قوله: (إذ جاء رجل) في رواية المستملي والأصيلي وكريمة " إذ دخل". قوله: (من المهاجرين الأولين) قيل في تعريفهم من صلى إلى القبلتين، وقيل من شهد بدرا، وقيل من شهد بيعة الرضوان. ولا شك أنها مراتب نسبية والأول أولى في التعريف لسبقه، فمن هاجر بعد تحويل القبلة وقبل وقعة بدر هو آخر بالنسبة إلى من هاجر قبل التحويل، وقد سمي ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في الموطأ الرجل المذكور عثمان بن عفان، وكذا سماه معمر في روايته عن الزهري عند الشافعي وغيره، وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر، قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافا في ذلك، وقد سماه أيضا أبو هريرة في روايته لهذه القصة عند مسلم كما سيأتي بعد بابين. قوله: (فناداه) أي قال له يا فلان. قوله: (أية ساعة هذه) أية بتشديد التحتانية تأنيث أي يستفهم بها، والساعة اسم لجزء من النهار مقدر وتطلق على الوقت الحاضر وهو المراد هنا، وهذا الاستفهام استفهام توبيخ وإنكار، وكأنه يقول لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة فقال عمر: لم تحتبسون عن الصلاة. وفي رواية مسلم " فعرض عنه عمر فقال ما بال رجال يتأخرون بعد النداء " والذي يظهر أن عمر قال ذلك كله فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر، ومراد عمر التلميح إلى ساعات التبكير التي وقع الترغيب فيها وأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف كما سيأتي قريبا، وهذا من أحسن التعويضات وأرشق الكنايات، وفهم عثمان ذلك فبادر إلى الاعتذار عن التأخر. قوله: (إني شغلت) بضم أوله، وقد بين جهة شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال " انقلبت من السوق فسمعت النداء " والمراد به الأذان بين يدي الخطيب كما سيأتي بعد أبواب. قوله: (فلم أزد على أن توضأت) لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلا بالوضوء، وهذا يدل على أنه دخل المسجد في ابتداء شروع عمر في الخطبة. قوله: (والوضوء أيضا؟) فيه إشعار بأنه قبل عذره في ترك التبكير لكنه استنبط منه معنى آخر اتجه له عليه فيه إنكار ثان مضاف إلى الأول، وقوله "والوضوء " في روايتنا بالنصب، وعليه اقتصر النووي في شرح مسلم، أي والوضوء أيضا اقتصرت عليه أو اخترته دون الغسل؟ والمعنى ما اكتفيت بتأخير الوقت وتفويت الفضيلة حتى تركت الغسل واقتصرت على الوضوء؟ وجوز القرطبي الرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي والوضوء أيضا يقتصر عليه، وأغرب السهيلي فقال: اتفق الرواة على الرفع لأن النصب يخرجه إلى معنى الإنكار، يعني والوضوء لا ينكر، وجوابه ما تقدم. والظاهر أن الواو عاطفة. وقال القرطبي: هي عوض عن همزة استفهام كقراءة ابن كثير " قال فرعون وآمنتم به " وقوله " أيضا " أي ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير إلى الجمعة حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه؟ ولم أقف في شيء من الروايات على جواب عثمان عن ذلك، والظاهر أنه سكت عنه اكتفاء بالاعتذار الأول لأنه قد أشار إلى أنه كان ذاهلا عن الوقت، وأنه بادر عند سماع النداء، وإنما ترك الغسل لأنه تعارض عنده إدراك سماع الخطبة والاشتغال بالغسل وكل منهما مرغب فيه فآثر سماع الخطبة، ولعله كان يرى فرضيته فلذلك آثره، والله أعلم. قوله: (كان يأمر بالغسل) كذا في جميع الروايات لم يذكر المأمور، إلا أن في رواية جويرية عن نافع بلفظ " كنا نؤمر " وفي حديث ابن عباس عند الطحاوي في هذه القصة " أن عمر قال له: لقد علم أنا أمرنا بالغسل. قلت: أنتم المهاجرون الأولون أم الناس جميعا؟ قال: لا أدري " رواته ثقات، إلا أنه معلول. وقد وقع في رواية أبي هريرة في هذه القصة " أن عمر قال: ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل " كذا هو في الصحيحين وغيرهما، وهو ظاهر في عدم التخصيص بالمهاجرين الأولين. وفي هذا الحديث من الفوائد القيام في الخطبة وعلى المنبر، وتفقد الإمام رعيته، وأمره لهم بمصالح دينهم، وإنكاره على من أخل بالفضل وإن كان عظيم المحل، ومواجهته بالإنكار ليرتدع من هو دونه بذلك، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها، وسقوط منع الكلام عن المخاطب بذلك. وفيه الاعتذار إلى ولاة الأمر، وإباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء ولو أفضى إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة، لأن عمر لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة. واستدل به مالك على أن السوق لا تمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان. وفيه شهود الفضلاء السوق، ومعاناة المتجر فيها. وفيه أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين. وقال عياض: فيه حجة لأن السعي إنما يجب بسماع الأذان، وأن شهود الخطبة لا يجب، وهو مقتضى قول أكثر المالكية. وتعقب بأنه لا يلزم من التأخير إلى سماع النداء فوات الخطبة، بل تقدم ما يدل على أنه لم يفت عثمان من الخطبة شيء. وعلى تقدير أن يكون فاته منها بشيء فليس فيه دليل على أنه لا يجب شهودها على من تنعقد به الجمعة. واستدل به على أن غسل الجمعة واجب لقطع عمر الخطبة وإنكاره على عثمان تركه، وهو متعقب لأنه أنكر عليه ترك السنة المذكورة وهي التبكير إلى الجمعة فيكون الغسل كذلك، وعلى أن الغسل ليس شرطا لصحة الجمعة. وسيأتي البحث فيه في الحديث بعده. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ الشرح: حديث مالك أيضا عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، لم تختلف رواة الموطأ على مالك في إسناده، ورجاله مدنيون كالأول، وفيه رواية تابعي عن تابعي صفوان عن عطاء، وقد تابع مالكا على روايته الدراوردي عن صفوان عند ابن حبان، وخالفهما عبد الرحمن بن إسحاق فرواه عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أخرجه أبو بكر المروذي في كتاب الجمعة له. قوله: (غسل يوم الجمعة) استدل به لمن قال الغسل لليوم للإضافة إليه، وقد تقدم ما فيه، واستنبط منه أيضا أن ليوم الجمعة غسلا مخصوصا حتى لو وجدت صورة الغسل فيه لم يجز عن غسل الجمعة إلا بالنية، وقد أخذ بذلك أبو قتادة فقال لابنه وقد رآه يغتسل يوم الجمعة " إن كان غسلك عن جنابة فأعد غسلا آخر للجمعة " أخرجه الطحاوي وابن المنذر وغيرهما. ووقع في رواية مسلم في حديث الباب الغسل يوم الجمعة وكذا هو في الباب الذي بعد هذا، وظاهره أن الغسل حيث وجد فيه كفى لكون اليوم جعل ظرفا للغسل، ويحتمل أن يكون اللام للعهد فتتفق الروايتان. قوله: (واجب على كل محتلم) أي بالغ، وإنما ذكر الاحتلام لكونه الغالب، واستدل به على دخول النساء في ذلك كما سيأتي بعد ثمانية أبواب، واستدل بقوله واجب على فرضية غسل الجمعة، وقد حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة وعمار بن ياسر وغيرهما، وهو قول أهل الظاهر وإحدى الروايتين عن أحمد، وحكاه ابن حزم عن عمر وجمع جم من الصحابة ومن بعدهم، ثم ساق الرواية عنهم لكن ليس فيها عن أحد منهم التصريح بذلك إلا نادرا، وإنما اعتمد في ذلك على أشياء محتملة كقول سعد " ما كنت أظن مسلما يدع غسل يوم الجمعة"، وحكاه ابن المنذر والخطابي عن مالك. وقال القاضي عياض وغيره ليس ذلك بمعروف في مذهبه، قال ابن دقيق العيد: قد نص مالك على وجوبه فحمله من لم يمارس مذهبه على ظاهره وأبى ذلك أصحابه ا هـ. والرواية عن مالك بذلك في التمهيد. وفيه أيضا من طريق أشهب عن مالك أنه سئل عنه فقال: حسن وليس بواجب. وحكاه بعض المتأخرين عن ابن خزيمة من أصحابنا، وهو غلط عليه فقد صرح في صحيحه بأنه على الاختيار، واحتج لكونه مندوبا بعدة أحاديث في عدة تراجم. وحكاه شارح الغنية لابن سريح قولا للشافعي واستغرب، وقد قال الشافعي في الرسالة بعد أن أورد حديثي ابن عمر وأبي سعيد: احتمل قوله واجب معنيين، الظاهر منهما أنه واجب فلا نجزي الطهارة لصلاة الجمعة إلا بالغسل، واحتمل أنه واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة. ثم استدل للاحتمال الثاني بقصة عثمان مع عمر التي تقدمت قال: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل ولم يأمره عمر بالخروج للغسل دل ذلك على أنهما قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار ا هـ. وعلى هذا الجواب عول أكثر المصنفين في هذه المسألة كابن خزيمة والطبري والطحاوي وابن حبان وابن عبد البر وهلم جرا، وزاد بعضهم فيه أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك فكان إجماعا منهم على أن الغسل ليس شرطا في صحة الصلاة وهو استدلال قوي، وقد نقل الخطابي وغيره الإجماع على أن صلاة الجمعة بدون الغسل مجزئة، لكن حكى الطبري عن قوم أنهم قالوا بوجوبه ولم يقولوا إنه شرط بل هو واجب مستقل تصح الصلاة بدونه كأن أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون من الملائكة والناس، وهو موافق لقول من قال: يحرم أكل الثوم على من قصد الصلاة في الجماعة، ويرد عليهم أنه يلزم من ذلك تأثيم عثمان، والجواب أنه كان معذورا لأنه إنما تركه ذاهلا عن الوقت، مع أنه يحتمل أن يكون قد اغتسل في أول النهار، لما ثبت في صحيح مسلم عن حمران أن عثمان لم يكن يمضي عليه يوم حتى يفيض عليه الماء، وإنما لم يعتذر بذلك لعمر كما اعتذر عن التأخر لأنه لم يتصل غسله بذهابه إلى الجمعة كما هو الأفضل، وعن بعض الحنابلة التفصيل بين ذي النظافة وغيره، فيجب على الثاني دون الأول نظرا إلى العلة، حكاه صاحب الهدى، وحكى ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قصة عمر وعثمان تدل على وجوب الغسل لا على عدم وجوبه من جهة ترك عمر الخطبة واشتغاله بمعاتبة عثمان وتوبيخ مثله على رءوس الناس، فلو كان ترك الغسل مباحا لما فعل عمر ذلك، وإنما لم يرجع عثمان للغسل لضيق الوقت إذ لو فعل لفاتته الجمعة أو لكونه كان اغتسل كما تقدم. قال ابن دقيق العيد: ذهب الأكثرون إلى استحباب غسل الجمعة وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر، وقد أولوا صيغة الأمر على الندب وصيغة الوجوب على التأكيد كما يقال: إكرامك على واجب، وهو تأويل ضعيف إنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا على هذا الظاهر. وأقوى ما عارضوا به هذا الظاهر حديث " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ولا يعارض سنده سند هذه الأحاديث، قال: وربما تأولوه تأويلا مستكرها كمن حمل لفظ الوجوب على السقوط. انتهى. فأما الحديث فعول على المعارضة به كثير من المصنفين، ووجه الدلالة منه قوله " فالغسل أفضل " فإنه يقتضي اشتراك الوضوء والغسل في أصل الفضل، فيستلزم إجزاء الوضوء. ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان: إحداهما أنه من عنعنة الحسن، والأخرى أنه اختلف عليه فيه. وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن ابن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر وكلها ضعيفة. وعارضوا أيضا بأحاديث، منها الحديث الآتي في الباب الذي بعده فإن فيه " وأن يستن، وأن يمس طيبا " قال القرطبي: ظاهره وجوب الاستنان والطيب لذكرهما بالعاطف، فالتقدير الغسل واجب والاستنان والطيب كذلك، قال: وليسا بواجبين اتفاقا، فدل على أن الغسل ليس بواجب، إذ لا يصح تشريك ما ليس بواجب مع الواجب بلفظ واحد. انتهى. وقد سبق إلى ذلك الطبري والطحاوي، وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يمتنع عطف ما ليس بواجب على الواجب، لا سيما ولم يقع التصريح بحكم المعطوف. وقال ابن المنير في الحاشية: إن سلم أن المراد بالواجب الفرض لم ينفع دفعه بعطف ما ليس بواجب عليه لأن للقائل أن يقول: أخرج بدليل فبقي ما عداه على الأصل، وعلى أن دعوى الإجماع في الطيب مردودة، فقد روى سفيان بن عيينة في جامعه عن أبي هريرة أنه كان يوجب الطيب يوم الجمعة وإسناده صحيح، وكذا قال بوجوبه بعض أهل الظاهر. ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا " من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له " أخرجه مسلم. قال القرطبي: ذكر الوضوء وما معه مرتبا عليه الثواب المقتضى للصحة، فدل على أن الوضوء كاف. وأجيب بأنه ليس فيه نفي الغسل. وقد ورد من وجه آخر في الصحيحين بلفظ " من اغتسل " فيحتمل أن يكون ذكر الوضوء لمن تقدم غسله على الذهاب فاحتاج إلى إعادة الوضوء. ومنها حديث ابن عباس أنه " سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ فقال: لا، ولكنه أطهر لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس بواجب عليه. وسأخبركم عن بدء الغسل: كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون، وكان مسجدهم ضيقا، فلما آذى بعضهم بعضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا " قال ابن عباس " ثم جاء الله بالخير، ولبسوا غير الصوف، وكفوا العمل، ووسع المسجد". أخرجه أبو داود والطحاوي وإسناده حسن، لكن الثابت عن ابن عباس خلافه كما سيأتي قريبا. وعلى تقدير الصحة فالمرفوع منه ورد بصيغة الأمر الدالة على الوجوب، وأما نفي الوجوب فهو موقوف لأنه من استنباط ابن عباس، وفيه نظر إذ لا يلزم من زوال السبب زوال المسبب كما في الرمل والجمار، على تقدير تسليمه فلمن قصر الوجوب على من به رائحة كريهة أن يتمسك به. ومنها حديث طاوس " قلت لابن عباس: زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رءوسكم إلا أن تكونوا جنبا " الحديث. قال ابن حبان بعد أن أخرجه: فيه أن غسل الجمعة يجزئ عنه غسل الجنابة، وأن غسل الجمعة ليس بفرض، إذ لو كان فرضا لم يجز عنه غيره. انتهى. وهذه الزيادة " إلا أن تكونوا جنبا " تفرد بها ابن إسحاق عن الزهري، وقد رواه شعيب عن الزهري بلفظ " وأن تكونوا جنبا " وهذا هو المحفوظ عن الزهري كما سيأتي بعد بابين. ومنها حديث عائشة الآتي بعد أبواب بلفظ " لو اغتسلتم " ففيه عرض وتنبيه لا حتم ووجوب، وأجيب بأنه ليس فيه نفي الوجوب، وبأنه سابق عل الأمر به والإعلام بوجوبه. ونقل الزين بن المنير بعد قول الطحاوي لما ذكر حديث عائشة: فدل على أن الأمر بالغسل لم يكن للوجوب، وإنما كان لعلة ثم ذهبت تلك العلة فذهب الغسل، وهذا من الطحاوي يقتضي سقوط الغسل أصلا فلا يعد فرضا ولا مندوبا لقوله زالت العلة الخ، فيكون مذهبا ثالثا في المسألة. انتهى. ولا يلزم من زوال العلة سقوط الندب تعبدا، ولا سيما مع احتمال وجود العلة المذكورة. ثم إن هذه الأحاديث كلها لو سلمت لما دلت إلا على نفي اشتراط الغسل لا على الوجوب المجرد صلى الله عليه وسلم كما تقدم. وأما ما أشار إليه ابن دقيق العيد من أن بعضهم أوله بتأويل مستكره فقد نقله ابن دحية عن القدوري من الحنفية وأنه قال: قوله واجب أي ساقط، وقوله على بمعنى عن، فيكون المعنى أنه غير لازم، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال الزين بن المنير: أصل الوجوب في اللغة السقوط، فلما كان في الخطاب على المكلف عبء ثقيل كان كل ما أكد طلبه منه يسمى واجبا كأنه سقط عليه، وهو أعم من كونه فرضا أو ندبا. وهذا سبقه ابن بزيزة إليه، ثم تعقبه بأن اللفظ الشرعي خاص بمقتضاه شرعا لا وضعا، وكأن الزين استشعر هذا الجواب فزاد أن تخصيص الواجب بالفرض اصطلاح حادث. وأجيب بأن " وجب " في اللغة لم ينحصر في السقوط، بل ورد بمعنى مات، وبمعنى اضطرب، وبمعنى لزم وغير ذلك. والذي يتبادر إلى الفهم منها في الأحاديث أنها بمعنى لزم، لا سيما إذا سيقت لبيان الحكم. وقد تقدم في بعض طرق حديث ابن عمر " الجمعة واجبة على كل محتلم " وهو بمعنى اللزوم قطعا ويؤيده أن في بعض طرق حديث الباب " واجب كغسل الجنابة " أخرجه ابن حبان من طريق الدراوردي عن صفوان بن سليم، وظاهره اللزوم، وأجاب عنه بعض القائلين بالندبية بأن التشبيه في الكيفية لا في الحكم. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون لفظة " الوجوب " مغيرة من بعض الرواة أو ثابتة ونسخ الوجوب، ورد بأن الطعن في الروايات الثابتة بالظن الذي لا مستند له لا يقبل، والنسخ لا يصار إليه إلا بدليل، ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم، فإن في حديث عائشة أن ذلك كان في أول الحال حيث كانوا مجهودين، وأبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولا، ومع ذلك فقد سمع كل منهما منه صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل والحث عليه والترغيب فيه فكيف يدعي النسخ بعد ذلك؟ . (فائدة) : حكى ابن العربي وغيره أن بعض أصحابهم قالوا: يجزئ عن الاغتسال للجمعة التطيب لأن المقصود النظافة. وقال بعضهم: لا يشترط له الماء المطلق بل يجزئ بماء الورد ونحوه، وقد عاب ابن العربي ذلك وقال: هؤلاء وقفوا مع المعنى وأغفلوا المحافظة على التعبد بالمعين، والجمع بين التعبد والمعنى أولى. انتهى. وعكس ذلك قول بعض الشافعية بالتيمم، فإنه تعبد دون نظر إلى المعنى، أما الاكتفاء بغير الماء المطلق فمردود لأنها عبادة لثبوت الترغيب فيها فيحتاج إلى النية ولو كان لمحض النظافة لم تكن كذلك، والله أعلم. الشرح: قوله: (باب الطيب للجمعة) لم يذكر حكمه أيضا لوقوع الاحتمال فيه كما سبق. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكرِ بْنِ الْمُنكَدِرِ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَأَنْ يَسْتَنَّ وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ قَالَ عَمْرٌو أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَمَّا الِاسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لَا وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ وَعِدَّةٌ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الشرح: قوله: (حدثنا علي بن عبد الله بن جعفر) كذا في رواية ابن عساكر، وهو ابن المديني، واقتصر الباقون على " حدثنا على". قوله: (قال أشهد على أبي سعيد) ظاهر في أنه سمعه منه، قال ابن التين: أراد بهذا اللفظ التأكيد للرواية. انتهى. وقد أدخل بعضهم بين عمرو بن سليم القائل " أشهد " وبين أبي سعيد رجلا كما سيأتي. قوله: (وأن يستن) أي يدلك أسنانه بالسواك. قوله: (وأن يمس) بفتح الميم في الأفصح. قوله: (إن وجد) متعلق بالطيب، أي إن وجد الطيب مسه، ويحتمل تعلقه بما قبله أيضا. وفي رواية مسلم " ويمس من الطيب ما يقدر عليه " وفي رواية " ولو من طيب المرأة " قال عياض: يحتمل قوله: " ما يقدر عليه " إرادة التأكيد ليفعل ما أمكنه، ويحتمل إرادة الكثرة، والأول أظهر. ويؤيده قوله: " ولو من طيب المرأة " لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك. ويؤخذ من اقتصاره على المس الأخذ بالتخفيف في ذلك. قال الزين ابن المنير: فيه تنبيه على الرفق، وعلى تيسير الأمر في التطيب بأن يكون بأقل ما يمكن حتى إنه يجزئ مسه من غير تناول قدر ينقصه تحريضا على امتثال الأمر فيه. قوله: (قال عمرو) أي ابن سليم راوي الخبر، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: (وأما الاستنان والطيب فالله أعلم) هذا يؤيد ما تقدم من أن العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، وكأن القدر المشترك تأكيد الطلب للثلاثة، وكأنه جزم بوجوب الغسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه. قال الزين بن المنير: يحتمل أن يكون قوله " وأن يستن " معطوفا على الجملة المصرحة بوجوب الغسل فيكون واجبا أيضا، ويحتمل أن يكون مستأنفا فيكون التقدير وأن يستن ويتطيب استحبابا، ويؤيد الأول ما سيأتي في آخر الباب من رواية الليث عن خالد بن يزيد حيث قال فيها " إن الغسل واجب " ثم قال " والسواك وأن يمس من الطيب " ويأتي في شرح " باب الدهن يوم الجمعة " حديث ابن عباس " وأصيبوا من الطيب " وفيه تردد ابن عباس في وجوب الطيب. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون قوله " وأن يستن الخ " من كلام أبي سعيد خلطه الراوي بكلام النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وإنما قال ذلك لأنه ساقه بلفظ " قال أبو سعيد وأن يستن " وهذا لم أره في شيء من نسخ الجمع بين الصحيحين الذي تكلم ابن الجوزي عليه. ولا في واحد من الصحيحين ولا في شيء من المسانيد والمستخرجات، بل ليس في جميع طرق هذا الحديث " قال أبو سعيد " فدعوى الإدراج قيه لا حقيقة لها، ويلتحق بالاستنان والتطيب التزين باللباس، وسيأتي استعمال الخمس التي عدت من الفطرة، وقد صرح ابن حبيب من المالكية به فقال: يلزم الآتي الجمعة جميع ذلك، وسيأتي في " باب الدهن للجمعة " " ويدهن من دهنه وبمس من طيبه " والله أعلم. قوله: (قال أبو عبد الله) أي البخاري، ومراده بما ذكر أن محمد بن المنكدر وإن كان يكنى أيضا أبا بكر لكنه ممن كان مشهورا باسمه دون كنيته، بخلاف أخيه أبي بكر راوي هذا الخبر فإنه لا اسم له إلا كنيته، وهو مدني تابعي كشيخه. قوله: (روى عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال) كذا في رواية أبي ذر، ولغيره " رواه عنه " وكأن المراد أن شعبة لم ينفرد برواية هذا الحديث عنه لكن بين رواية بكير وسعيد مخالفة في موضع من الإسناد، فرواية بكير موافقة لرواية شعبة ورواية سعيد أدخل فيها بين عمرو بن سليم وأبي سعيد واسطة كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن الحارث أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثاه عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه فذكر الحديث وقال في آخره " إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن " وكذلك أخرج أحمد من طريق ابن لهيعة عن بكير ليس فيه عبد الرحمن، وغفل الدار قطني في " العلل " عن هذا الكلام الأخير فجزم بأن بكيرا وسعيدا خالفا شعبة فزادا في الإسناد عبد الرحمن وقال: إنهما ضبطا إسناده وجوداه وهو الصحيح، وليس كما قال، بل المنفرد بزيادة عبد الرحمن هو سعيد بن أبي هلال، وقد وافق شعبة وبكيرا على إسقاطه محمد بن المنكدر أخو أبي بكر أخرجه ابن خزيمة من طريقه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد. والذي يظهر أن عمرو ابن سليم سمعه من عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ثم لقي أبا سعيد فحدثه، وسماعه منه ليس بمنكر لأنه قديم ولد في خلافة عمر بن الخطاب ولم يوصف بالتدليس. وحكى الدار قطني في " العلل " فيه اختلافا آخر على علي بن المديني شيخ البخاري فيه، فذكر أن الباغندي حدث به عنه بزيادة عبد الرحمن أيضا، وخالفه تمام عنه فلم يذكر عبد الرحمن، وفيما قال نظر، فقد أخرجه الإسماعيلي عن الباغندي بإسقاط عبد الرحمن، وكذا أخرجه أبو نعيم في المستخرج عن أبي إسحاق بن حمزة وأبي أحمد الغطريفي كلاهما عن الباغندي، فهؤلاء ثلاثة من الحفاظ حدثوا به عن الباغندي فلم يذكروا عبد الرحمن في الإسناد، فلعل الوهم فيه ممن حدث به الدار قطني عن الباغندي، وقد وافق البخاري على ترك ذكره محمد بن يحيى الذهلي عند الجوزقي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة عند ابن خزيمة وعبد العزيز بن سلام عند الإسماعيلي وإسماعيل القاضي عند ابن منده في " غرائب شعبة " كلهم عن علي بن المديني، ووافق علي بن المديني على ترك ذكره أيضا إبراهيم ابن محمد وإسماعيل بن عرعرة عن حرمي بن عمارة عند أبي بكر المروذي في " كتاب الجمعة " له ولم أقف عليه من حديث شعبة إلا من طريق حرمي وأشار ابن منده إلى أنه تفرد به عنه. (تنبيه) ذكر المزي في " الأطراف " أن البخاري قال عقب رواية شعبة هذه: وقال الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه، ولم أقف على هذا التعليق في شيء من النسخ التي وقعت لنا من الصحيح، ولا ذكره أبو مسعود ولا خلف، وقد وصله من طريق الليث كذلك أحمد والنسائي وابن خزيمة بلفظ " أن الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه". الشرح: قوله: (باب فضل الجمعة) أورد فيه حديث مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة " من اغتسل يوم الجمعة ثم راح " الحديث. وإسناده مدنيون، ومناسبته للترجمة من جهة ما اقتضاه الحديث من مساواة المبادر إلى الجمعة للمتقرب بالمال فكأنه جمع بين عبادتين بدنية ومالية، وهذه خصوصية للجمعة لم تثبت لغيرها من الصلوات. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ الشرح: قوله: (من اغتسل) يدخل فيه كل من يصح التقرب منه من ذكر أو أنثى حر أو عبد. قوله: (غسل الجنابة) بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي غسلا كغسل الجنابة، وهو كقوله تعالى انتهى. وقد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد، وثبت أيضا عن جماعة من التابعين. وقال القرطبي: إنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه وإن كان الأول أرجح صلى الله عليه وسلم ولعله عنى أنه باطل في المذهب. قوله: (ثم راح) زاد أصحاب الموطأ عن مالك " في الساعة الأولى". قوله: (فكأنما قرب بدنة) أي تصدق بها متقربا إلى الله، وقيل المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان، لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم السالفة. وفي رواية ابن جريج المذكورة " فله من الأجر مثل الجزور " وظاهره أن المراد أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور صلى الله عليه وسلم. وقيل ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاوس عند عبد الرزاق " كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة " ووقع في رواية الزهري الآتية في " باب الاستماع إلى الخطبة " بلفظ " كمثل الذي يهدي بدنة " فكأن المراد بالقربان في رواية الباب الإهداء إلى الكعبة. قال الطيبي: في لفظ الإهداء إدماج بمعنى التعظيم للجمعة، وأن المبادر إليها كمن ساق الهدي، والمراد بالبدنة البعير ذكرا كان أو أنثى، والهاء فيها للوحدة لا للتأنيث، وكذا في باقي ما ذكر. وحكى ابن التين عن مالك أنه كان يتعجب ممن يخص البدنة بالأنثى. وقال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وصح ذلك عن عطاء، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم، هذا لفظه. وحكى النووي عنه أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم، وكأنه خطأ نشأ عن سقط. وفي الصحاح: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها. انتهى. والمراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف، واستدل به على أن البدنة تختص بالإبل لأنها قوبلت بالبقرة عند الإطلاق، وقسم الشيء لا يكون قسيمه، أشار إلى ذلك ابن دقيق العيد. وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها البقرة وسبعا من الغنم. وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله علي بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإبل إن وجدت، وإلا فالبقرة أو سبع من الغنم. وقيل: تتعين الإبل مطلقا، وقيل يتخير مطلقا. قوله: (دجاجة) بالفتح، ويجوز الكسر، وحكى الليث الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب أنها بالفتح من الحيوان وبالكسر من الناس. واستشكل التعبير في الدجاجة والبيضة بقوله في رواية الزهري " كالذي يهدى " لأن الهدي لا يكون منهما، وأجاب القاضي عياض تبعا لابن بطال بأنه لما عطفه على ما قبله أعطاه حكمه في اللفظ فيكون من الاتباع كقوله " متقلدا سيفا ورمحا". وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن شرط الاتباع أن لا يصرح باللفظ في الثاني فلا يسوغ أن يقال متقلدا سيفا ومتقلدا رمحا. والذي يظهر أنه من باب المشاكلة، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: هو من تسمية الشيء باسم قرينه. وقال ابن دقيق العيد: قوله " قرب بيضة " وفي الرواية الأخرى " كالذي يهدي " يدل على أن المراد بالتقريب الهدي، وينشأ منه أن الهدي يطلق على مثل هذا حتى لو التزم هديا هل يكفيه ذلك أو لا؟ انتهى. والصحيح عند الشافعية الثاني، وكذا عند الحنفية والحنابلة، وهذا ينبني على أن النذر هل يسلك به مسلك جائز الشرع أو واجبه؟ فعلى الأول يكفي أقل ما يتقرب به، وعلى الثاني يحمل على أقل ما يتقرب به من ذلك الجنس، ويقوي الصحيح أيضا أن المراد بالهدي هنا التصدق كما دل عليه لفظ التقرب، والله أعلم. قوله: (فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر) استنبط منه الماوردي أن التبكير لا يستحب للإمام، قال: ويدخل للمسجد من أقرب أبوابه إلى المنبر، وما قاله غير ظاهر لإمكان أن يجمع الأمرين بأن يبكر ولا يخرج من المكان المعد له في الجامع إلا إذا حضر الوقت، أو يحمل على من ليس له مكان معد. وزاد في رواية الزهري الآتية " طووا صحفهم " ولمسلم من طريقه " فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر " وكأن ابتداء طي الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاءه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها. وأول حديث الزهري " إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول " ونحوه في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي. وفي رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عند ابن خزيمة " على كل باب من أبواب المسجد ملكان يكتبان الأول فالأول " فكأن المراد بقوله في رواية الزهري " على باب المسجد " حنس الباب، ويكون من مقابلة المجموع بالمجموع، فلا حجة فيه لمن أجاز التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع. ووقع في حديث ابن عمر صفة الصحف المذكورة، أخرجه أبو نعيم في الحليلة مرفوعا بلفظ " إذا كان يوم الجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور وأقلام من نور " الحديث، وهو دال على أن الملائكة المذكورين غير الحفظة، والمراد بطي الصحف طي صحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعا، ووقع في رواية ابن عيينة عن الزهري في آخر حديثه المشار إليه عند ابن ماجه " فمن جاء بعد ذلك فإنما يجيء لحق الصلاة " وفي رواية ابن جريج عن سمي من الزيادة في آخره " ثم إذا استمع وأنصت غفر له ما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام". وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن خزيمة " فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانا؟ فتقول: اللهم إن كان ضالا فاهده، وإن كان فقيرا فأغنه، وإن كان مريضا فعافه". وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التبكير إليها، وأن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل. وفيه أن مراتب الناس في الفضل بحسب أعمالهم، وأن القليل من الصدقة غير محتقر في الشرع، وأن التقرب بالإبل أفضل من التقرب بالبقر وهو بالاتفاق في الهدي، واختلف في الضحايا، والجمهور على أنها كذلك. وقال الزين بن المنير: فرق مالك بين التقربين باختلاف المقصودين، لأن أصل مشروعية الأضحية التذكير بقصة الذبيح، وهو قد فدى بالغنم. والمقصود بالهدي التوسعة على المساكين فناسب البدن. واستدل به على أن الجمعة تصح قبل الزوال كما سيأتي نقل الخلاف فيه بعد أبواب، ووجه الدلالة منه تقسيم الساعة إلى خمس. ثم عقب بخروج الإمام، وخروجه عند أول وقت الجمعة، فيقتضي أنه يخرج في أول الساعة السادسة وهي قبل الزوال. والجواب أنه ليس في شيء من طرق هذا الحديث ذكر الإتيان من أول النهار، فلعل الساعة الأولى منه جعلت للتأهب بالاغتسال وغيره، ويكون مبدأ المجيء من أول الثانية فهي أولى بالنسبة للمجيء ثانية بالنسبة للنهار، وعلى هذا فآخر الخامسة أول الزوال فيرتفع الإشكال، وإلى هذا أشار الصيدلاني شارح المختصر حيث قال: إن أول التبكير يكون من ارتفاع النهار، وهو أول الضحى، وهو أول الهاجرة. ويؤيده الحث على التهجير إلى الجمعة. ولغيره من الشافعية في ذلك وجهان اختلف فيهما الترجيح، فقيل: أول التبكير طلوع الشمس، وقيل طلوع الفجر، ورجحه جمع، وفيه نظر إذ يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر، وقد قال الشافعي: يجزئ الغسل إذا كان يعد الفجر فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك. ويحتمل أن يكون ذكر الساعة السادسة لم يذكره الراوي، وقد وقع في رواية ابن عجلان عن سمي عند النسائي من طريق الليث عنه زيادة مرتبة بين الدجاجة والبيضة وهي العصفور، وتابعة صفوان بن عيسى عن ابن عجلان، أخرجه محمد بن عبد السلام الخشني، وله شاهد من حديث أبي سعيد أخرجه حميد بن زنجويه في الترغيب له بلفظ " فكمهدي البدنة إلى البقرة إلى الشاة إلى علية الطير إلى العصفور " الحديث، ونحوه في مرسل طاوس عند سعيد بن منصور، ووقع عند النسائي أيضا في حديث الزهري من رواية عبد الأعلى عن معمر زيادة البطة بين الكبش والدجاجة، لكن خالفه عبد الرزاق، وهو أثبت منه في معمر فلم يذكرها، وعلى هذا فخروج الإمام يكون عند انتهاء السادسة، وهذا كله مبني على أن المراد بالساعات ما يتبادر الذهن إليه من العرف فيها، وفيه نظر إذ لو كان ذلك المراد لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف، لأن النهار ينتهي في القصر إلى عشر ساعات وفي الطول إلى أربع عشرة، وهذا الإشكال للقفال، وأجاب عنه القاضي حسين بأن المراد بالساعات ما لا يختلف عدده بالطول والقصر، فالنهار اثنتا عشرة ساعة لكن يزيد كل منها وينقص والليل كذلك، وهذه تسمى الساعات الآفاقية عند أهل الميقات وتلك التعديلية، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم من حديث جابر مرفوعا " يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة " وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات، وقيل المراد بالساعات بيان مراتب المبكرين من أول النهار إلى الزوال وأنها تنقسم إلى خمس، وتجاسر الغزالي فقسمها برأيه فقال: الأولى من طلوع. الفجر إلى طلوع الشمس، والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها، والرابعة إلى أن ترمض الأقدام، والخامسة إلى الزوال. واعترضه ابن دقيق العيد بأن الرد إلى الساعات المعروفة أولى وإلا لم يكن لتخصيص هذا العدد بالذكر معنى لأن المراتب متفاوتة جدا، وأولى الأجوبة الأول إن لم تكن زيادة ابن عجلان محفوظة، وإلا فهي المعتمدة. وانفصل المالكية إلا قليلا منهم وبعض الشافعية عن الإشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود، تقول جئت ساعة كذا، وبأن قوله في الحديث " ثم راح " يدل على أن أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال، لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة الرواح وتجوز في الساعة وعكس غيره. انتهى. وقد أنكر الأزهري على من زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول " راح " في جميع الأوقات بمعنى ذهب، قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في " الغريبين " نحوه. قلت: وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. ثم إني لم أر التعبير بالرواح في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي، وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ " غدا " ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ " المتعجل إلى الجمعة كالمهدي بدنة " الحديث وصححه ابن خزيمة، وفي حديث سمرة " ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجمعة في التبكير كناحر صلى الله عليه وسلم البدنة " الحديث، أخرجه ابن ماجه، ولأبي داود من حديث علي مرفوعا " إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق، وتغدو الملائكة فتجلس على باب المسجد فتكتب الرجل من ساعة والرجل من ساعتين " الحديث، فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، وقيل: النكتة في التعبير بالرواح الإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجمعة رائحا وإن لم يجيء وقت الرواح، كما سمي القاصد إلى مكة حاجا. وقد اشتد إنكار أحمد وابن حبيب من المالكية ما نقل عن مالك من كراهية التبكير إلى الجمعة وقال أحمد: هذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. واحتج بعض المالكية أيضا بقوله في رواية ا لزهري " مثل المهجر " لأنه مشتق من التهجر وهو السير في وقت الهاجرة، وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في المواقيت. وقال ابن المنير في الحاشية: يحتمل أن يكون مشتقا من الهجير بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء، وقيل: هو من هجر المنزل وهو ضعيف لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير وقت الحر، وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبا، بخلاف ما بعد زوال الشمس فإن الحر يأخذ في الانحطاط، ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشد ابن الأعرابي في نوادره لبعض العرب تهجرون تهجير الفجر واحتجوا أيضا بأن الساعة لو لم تطل لزم تساوي الآتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق، بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة. والجواب ما قاله النووي في شرح المهذب تبعا لغيره. أن التساوي وقع في مسمى البدنة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال " كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بدنة " الحديث ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج صلى الله عليه وسلم " وأول الساعة وآخرها سواء " لأن هذه التسوبة بالنسبة إلى البدنة كما تقرر. واحتج من كره التبكير أيضا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج لها ثم رجع، وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة لأنه قاصد للوصول لحقه. وإنما الحرج على من تأخر عن المجيء ثم جاء فتخطى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
|