الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ (الْخَامِسُ): الْعَجَبُ إنَّمَا يَكُونُ وَيُوجَدُ مِنْ الْإِنْسَانِ لِاسْتِشْعَارِ وَصْفِ كَمَالٍ , وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ اسْتَعْظَمَهُ فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِطَاعَتِهِ , وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهَا جَعَلَتْ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَوْضِعًا , وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ بِهَا جَزَاءً , وَيَكُونُ قَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ , فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام " ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحُّ مُطَاعٌ , وَهَوًى مُتَّبَعٌ , وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ " وَرُبَّمَا مَنَعَهُ عُجْبُهُ مِنْ الِازْدِيَادِ , وَلِهَذَا قَالُوا: عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ . وَمَا أَضَرَّ الْعُجْبَ بِالْمَحَاسِنِ . وَسَبَبُ الْعُجْبِ وَعِلَّتُهُ الْجَهْلُ الْمَحْضُ . وَمَنْ أُعْجِبَ بِطَاعَتِهِ مَثَلًا فَمَا فَهِمَ أَنَّهَا بِالتَّوْفِيقِ حَصَلَتْ . فَإِنْ قَالَ: رَآنِي أَهْلًا لَهَا فَوَفَّقَنِي . قِيلَ لَهُ: فَتِلْكَ نِعْمَةٌ مِنْ مَنِّهِ وَفَضْلِهِ فَلَا تُقَابَلُ بِالْإِعْجَابِ . وَفِي صَيْدِ الْخَاطِرِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ - طَيَّبَ اللَّهُ ثَرَاهُ -: إذَا تَمَّ عِلْمُ الْإِنْسَانِ لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا , وَلَمْ يُعْجَبْ بِهِ لِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُ وُفِّقَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ , وَحَبَّبَ إلَيْكُمْ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ . وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا قِيسَ بِالنِّعَمِ لَمْ يَفِ بِمِعْشَارِ عُشْرِهَا , وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لُوحِظَتْ عَظَمَةُ الْمَخْدُومِ اُحْتُقِرَ كُلُّ عَمَلٍ وَتَعَبُّدٍ . هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ شَائِبَةٍ وَخَلَصَ مِنْ غَفْلَةٍ , فَأَمَّا وَالْغَفَلَاتُ تُحِيطُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُغَلِّبَ الْحَذَرَ مِنْ رَدِّهِ وَيَخَافَ الْعِقَابَ عَلَى التَّقْصِيرِ فِيهِ فَيَشْتَغِلَ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهِ , وَتَأَمَّلْ عَلَى الْفُطَنَاءِ أَحْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ . فَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ قَالُوا: مَا عَبَدْنَاك حَقَّ عِبَادَتِك . وَالْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " مَا مِنْكُمْ مَنْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ " . وَعُمَرُ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعًا عَلَى الْأَرْضِ لَافْتَدَيْت بِهَا مِنْ هَوْلِ مَا أَمَامِي قَبْلَ (أَنْ) أَعْلَمَ مَا الْخَبَرُ . وَابْنُ مَسْعُودٍ: يَقُولُ: وَدِدْت إذْ مِتُّ لَا أُبْعَثُ . وَعَائِشَةُ تَقُولُ: لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا . وَهَذَا شَأْنُ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ صُلَحَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مَا يَدُلُّ عَلَى قِلَّةِ الْإِفْهَامِ لِمَا شَرَحْته ; لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى أَعْمَالِهِمْ فَأَدَلُّوا بِهَا .
فَمِنْهُ حَدِيثُ الْعَابِدِ الَّذِي تَعَبَّدَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ فِي جَزِيرَةٍ , وَأَخْرَجَ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً , وَسَأَلَ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُمِيتَهُ فِي سُجُودِهِ , فَإِذَا حُشِرَ قِيلَ لَهُ اُدْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي , قَالَ بَلْ بِعَمَلِي , فَيُوزَنُ جَمِيعُ عَمَلِهِ بِنِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يَفِي , فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بِرَحْمَتِك . قُلْت: هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَرِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ . قَالَ جَابِرٌ " خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّ لِلَّهِ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ عَبَدَ اللَّهَ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ , عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا , وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَأَخْرَجَ لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبُعِ تَبِضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ , فَيَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ , وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً يَتَعَبَّدُ يَوْمَهُ فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنْ الْوُضُوءِ , وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ عِنْدَ وَقْتِ الْأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا , وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ , وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى يَبْعَثَهُ , وَهُوَ سَاجِدٌ قَالَ فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إذَا هَبَطْنَا , وَإِذَا خَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي , فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي , فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي فَيَقُولُ اللَّهُ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ , فَيُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ فَيُجَرُّ إلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِك أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَك , وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ , فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاك لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ , فَيَقُولُ: مَنْ أَنْزَلَك فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ , وَأَخْرَجَ لَك الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنْ الْمَاءِ الْمَالِحِ , وَأَخْرَجَ لَك كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً , وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ , وَسَأَلْتَهُ أَنْ يَقْبِضَك سَاجِدًا فَفَعَلَ؟ فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ قَالَ: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي , وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُك الْجَنَّةَ , أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ , فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي فَأَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ قَالَ جِبْرِيلُ: إنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ يَا مُحَمَّدُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ " . وَفِيهِ كَلَامٌ نَفِيسٌ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْغَارِ الَّذِينَ انْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ الصَّخْرَةُ وَقَدْ قَدَّمْت حَدِيثَهُمْ . قَالَ: فَإِنَّ أَحَدَهُمْ تَوَسَّلَ بِعَمَلٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ ذِكْرِهِ , وَهُوَ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى الزِّنَا ثُمَّ خَافَ الْعُقُوبَةَ فَتَرَكَهُ . فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا يُدِلُّ مَنْ خَافَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلَى شَيْءٍ فَتَرَكَهُ لِخَوْفِ الْعُقُوبَةِ إنَّمَا لَوْ كَانَ مُبَاحًا فَتَرَكَهُ كَانَ فِيهِ مَا فِيهِ . وَلَوْ فَهِمَ لَشَغَلَهُ خَجَلُ التُّهْمَةِ عَنْ الْإِدْلَالِ كَمَا قَالَ يُوسُفُ عليه السلام . وَالْآخَرُ تَرَكَ صِبْيَانَهُ يَتَضَاغَوْنَ إلَى الْفَجْرِ لِيَسْقِيَ أَبَوَيْهِ اللَّبَنَ . وَفِي ضِمْنِ هَذَا الْبِرِّ أَذًى لِلْأَطْفَالِ . قَالَ: وَلَكِنَّ الْفَهْمَ عَزِيزٌ . وَكَأَنَّهُمْ لَمَّا أَحْسَنُوا قَالَ لِسَانُ الْحَالِ: أَعْطُوهُمْ مَا طَلَبُوا فَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ أُجْرَةَ مَا عَمِلُوا . ثُمَّ قَالَ: وَلَوْلَا عِزَّةُ الْفَهْمِ مَا تَكَبَّرَ مُتَكَبِّرٌ عَلَى جِنْسِهِ , وَلَكَانَ كُلُّ كَامِلٍ خَائِفًا مُحْتَقِرًا لِعَمَلِهِ حَذِرًا مِنْ التَّقْصِيرِ فِي شُكْرِ مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ . وَفَهْمُ هَذَا الْمَشْرُوحِ يُنَكِّسُ رَأْسَ الْكِبْرِ وَيُوجِبُ مُسَاكَنَةَ الذُّلِّ . وَقَالَ فِي مَكَانٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: عَجِبْت لِمَنْ يَعْجَبُ بِصُورَتِهِ , وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ , وَيَنْسَى مَبْدَأَ أَمْرِهِ , إنَّمَا أَوَّلُهُ لُقْمَةٌ ضَمَّتْ إلَيْهَا جَرْعَةَ مَاءٍ , فَإِنْ شِئْت فَقُلْ كِسْرَةَ خُبْزٍ مَعَهَا تَمَرَاتٌ , وَقِطْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ , وَمَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ , وَجَرْعَةٌ مِنْ مَاءٍ , وَنَحْوُ ذَلِكَ , طَبَخَتْهُ الْكَبِدُ , فَأَخْرَجَتْ مِنْهُ قَطَرَاتِ مَنِيٍّ فَاسْتَقَرَّتْ فِي الْأُنْثَيَيْنِ , فَحَرَّكَتْهَا الشَّهْوَةُ , فَبَقِيَتْ فِي بَطْنِ الْأُمِّ مُدَّةً حَتَّى تَكَامَلَتْ صُورَتُهَا , فَخَرَجَتْ طِفْلًا تَتَقَلَّبُ فِي خِرَقِ الْبَوْلِ . وَأَمَّا آخِرُهُ فَإِنَّهُ يُلْقَى فِي التُّرَابِ فَيَأْكُلُهُ الدُّودُ , وَيَصِيرُ رُفَاتًا تَسْفِيهِ السَّوَافِي . وَكَمْ يَخْرُجُ تُرَابُ بَدَنِهِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ آخَرَ , وَيُقَلَّبُ فِي أَحْوَالٍ إلَى أَنْ يَعُودَ فَيُجْمَعَ . وَأَمَّا الرُّوحُ فَإِنْ تَجَوْهَرَتْ بِالْأَدَبِ , وَتَقَوَّمَتْ بِالْعِلْمِ , وَعَرَفَتْ الصَّانِعَ , وَقَامَتْ بِحَقِّهِ , فَلَا يَضُرُّهَا نَقْضُ الْمُرَكَّبِ . وَإِنْ هِيَ بَقِيَتْ عَلَى طَبْعِهَا مِنْ الْجَهَالَةِ شَابَهَتْ الطِّينَ , بَلْ صَارَتْ إلَى أَخَسِّ حَالَةٍ مِنْهُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَّادِ أَنَّهُمْ يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ . فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ , وَهَذَا لَا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَهُ خَيْرًا مِنْهُ , حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُومَأُ إلَيْهِمْ , مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا أُدْفَنُ إلَّا فِي دِكَّةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ . وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرَ عِظَامِ الْمَوْتَى , ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ادْفِنُونِي إلَى جَانِبِ مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوفٍ , وَلَا يَعْلَمُونَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ تَكَبَّرَ " وَقَلَّ مَا رَأَيْتُ إلَّا وَهُوَ يَرَى نَفْسَهُ . وَالْعُجْبُ كُلُّ الْعُجْبِ مِمَّنْ يَرَى نَفْسَهُ . أَتُرَاهُ بِمَاذَا رَآهَا . إنْ كَانَ بِالْعِلْمِ فَقَدْ سَبَقَهُ الْعُلَمَاءُ .أَوْ بِالتَّعَبُّدِ فَقَدْ سَبَقَهُ الْعُبَّادُ .أَوْ بِالْمَالِ فَالْمَالُ لَا يُوجِبُ بِنَفْسِهِ فَضِيلَةً دِينِيَّةً . فَإِنْ قَالَ: عَرَفْت مَا لَمْ يَعْرِفْ غَيْرِي مِنْ الْعِلْمِ فِي زَمَنِي فَمَا عَلَيَّ مِمَّنْ تَقَدَّمَ . قِيلَ لَهُ: مَا نَأْمُرُك يَا حَافِظَ الْقُرْآنِ أَنْ تَرَى نَفْسَك فِي الْحِفْظِ كَمَنْ يَحْفَظُ النِّصْفَ , وَلَا يَا فَقِيهُ أَنْ تَرَى نَفْسَك فِي الْعِلْمِ كَالْعَامِّيِّ إنَّمَا نَحْذَرُ عَلَيْك أَنْ تَرَى نَفْسَك خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُؤْمِنِ وَإِنْ قَلَّ عِلْمُهُ , فَإِنَّ الْخَيْرِيَّةَ بِالْمَعَانِي لَا بِصُوَرِ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ . وَمَنْ تَأَمَّلَ خِصَالَ نَفْسِهِ وَذُنُوبَهَا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الذُّنُوبِ وَالتَّقْصِيرِ , وَهُوَ مِنْ حَالِ غَيْرِهِ عَلَى شَكٍّ , فَاَلَّذِي نَحْذَرُ مِنْهُ الْإِعْجَابُ بِالنَّفْسِ وَرُؤْيَةُ التَّقَدُّمِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ . وَالْمُؤْمِنُ لَا يَزَالُ يَحْتَقِرُ نَفْسَهُ . وَقَدْ قِيلَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنْ مُتَّ نَدْفِنُك فِي حُجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَأَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِكُلِّ ذَنْبٍ غَيْرِ الشِّرْكِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى نَفْسِي أَهْلًا لِذَلِكَ . قَالَ - أَيْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ -: وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ رَجُلًا مِنْ الرُّهْبَانِ رَأَى فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ: فُلَانٌ الْإِسْكَافُ خَيْرٌ مِنْك , فَنَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ عَمَلِهِ , فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ كَبِيرَ عَمَلٍ . فَقِيلَ لَهُ فِي الْمَنَامِ عُدْ إلَيْهِ , وَقُلْ لَهُ: مِمَّ صُفْرَةُ وَجْهِك؟ فَعَادَ فَسَأَلَهُ , فَقَالَ: مَا رَأَيْت مُسْلِمًا إلَّا وَظَنَنْتُهُ خَيْرًا مِنِّي , فَقِيلَ لَهُ: فَبِذَاكَ ارْتَفَعَ . انْتَهَى
(السَّادِسُ) الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ مَذْمُومَانِ شَرْعًا وَطَبْعًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَدْ عَلِمْتَ دَلِيلَهُ . وَأَمَّا الطَّبْعُ فَقَدْ عُلِمَ أَيْضًا مِمَّا مَرَّ وَنَزِيدُك أَيْضًا وُضُوحًا أَنَّ الْكِبْرَ حَرَكَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَخَطَرَاتٌ نَفْسَانِيَّةٌ يَتَرَكَّبُ مِنْ رُؤْيَةِ قَدْرِهِ , وَنُفُوذِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَقُصُورِ غَيْرِهِ مِنْ حَالِهِ , وَيُورِثُهُ اسْتِكْبَارًا عَنْ الْحَقِّ إذَا طُولِبَ بِهِ , وَإِقَامَةَ الْمَعَاذِيرِ لِنَفْسِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ , وَالْغَيْبَةَ عَنْ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ رَقِيبٌ عَلَيْهِ . فَلَوْ لَاحَظَ ذَلِكَ لَذَلَّتْ نَفْسُهُ , وَاعْتَدَلَ كِبْرُهُ , وَصَارَ عِزَّةً ; إذْ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَظُهُورُ صِفَاتِ النَّفْسِ غَالِبًا لَا يَجْتَمِعَانِ , اللَّهُمَّ إلَّا فِي نَاقِصِ الْبَصِيرَةِ , بِحَيْثُ يُبْصِرُ أَمْرًا وَيَغِيبُ عَنْ آخَرَ , فَقَدْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعَمَى مَا يَخْلُفُهُ عَنْ ذَلِكَ , كَمَا قَالَهُ الْوَاسِطِيُّ رحمه الله تعالى . وَلِأَنَّ مِنْ عَلَامَاتِ الْكِبْرِ أَنْ يَطْلُبَ إقَامَةَ جَاهِهِ , وَكَسْرَ غَيْرِهِ , وَالِانْتِقَامَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ , وَلَا يَذْكُرَ أَحَدًا إلَّا انْتَقَصَهُ , وَذَكَرَ عُيُوبَهُ , وَنَسِيَ فَضَائِلَهُ , وَأَظْهَرَ فَضَائِلَ نَفْسِهِ , وَكُلُّ هَذَا مَذْمُومٌ طَبْعًا . وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنَّ اللَّهَ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا , حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ , وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " . قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي اقْتِفَاءِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ: فَجَمَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نَوْعَيْ الِاسْتِطَالَةِ ; لِأَنَّ الْمُسْتَطِيلَ إنْ اسْتَطَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ الْمُفْتَخِرُ , وَإِنْ اسْتَطَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ الْبَاغِي . فَلَا يَحِلُّ لَا هَذَا , وَلَا هَذَا . وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ (تَتِمَّةٌ) فِي فَوَائِدَ تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ:
(الْأُولَى): التَّوَاضُعُ مَحْمُودٌ شَرْعًا وَطَبْعًا . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ أَحَدٌ إلَّا رَفَعَهُ " . وَعَنْ نَصِيحٍ الْعَنْسِيِّ عَنْ رَكْبٍ الْمِصْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ , وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ , وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ , وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ , وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ , وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ , وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ , وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ , وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ . وَقَدْ حَسَّنَهُ أَبُو عُمَرَ النَّمَرِيُّ وَغَيْرُهُ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ " زَادَ ابْنُ حِبَّانَ " وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ عَلَيْهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ مَا غَيَّبَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ . أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَرُوَاتُهُمَا مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَا أَعْلَمُهُ إلَّا رَفَعَهُ قَالَ " يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ تَوَاضَعَ لِي هَكَذَا , وَجَعَلَ يَزِيدُ بَاطِنَ كَفِّهِ إلَى الْأَرْضِ وَأَدْنَاهَا رَفَعْتُهُ هَكَذَا , وَجَعَلَ بَاطِنَ كَفِّهِ إلَى السَّمَاءِ وَرَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ " وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ " أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ قَالَ انْتَعِشْ نَعَشَك اللَّهُ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ وَفِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ , وَمَنْ تَكَبَّرَ قَصَمَهُ اللَّهُ وَقَالَ اخْسَأْ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ " . وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ وَإِسْنَادُهُمَا حَسَنٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا فِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ , فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ ارْفَعْ حَكَمَتَهُ , وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ ضَعْ حَكَمَتَهُ " قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ: الْحَكَمَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْكَافِ هِيَ مَا يُجْعَلُ فِي رَأْسِ الدَّابَّةِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ . وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا " مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ رَفَعَهُ اللَّهُ . وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ اللَّهُ " . وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا حَسَبَ إلَّا فِي التَّوَاضُعِ , وَلَا نَسَبَ إلَّا بِالتَّقْوَى , وَلَا عَمَلَ إلَّا بِالنِّيَّةِ , وَلَا عِبَادَةَ إلَّا بِالْيَقِينِ " . وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَلْيَطْلُبْ بِالتَّوَاضُعِ شُكْرَهَا , فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَكُورًا حَتَّى يَكُونَ مُتَوَاضِعًا " . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه " إنَّ مِنْ التَّوَاضُعِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجْلِسِ , وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ " . وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ " كَانَ يُقَالُ: الْغِنَى فِي النَّفْسِ , وَالْكَرَمُ فِي التَّقْوَى , وَالشَّرَفُ فِي التَّوَاضُعِ " . وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عليه السلام يَجْلِسُ فِي أَوْضَعِ مَجَالِسِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَيَقُولُ: مِسْكِينٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَسَاكِينَ . وَكَانَ يُقَالُ: ثَمَرَةُ الْقَنَاعَةِ الرَّاحَةُ , وَثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ . وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ . وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا سُئِلَ الشَّرِيفُ تَوَاضَعَ , وَإِذَا سُئِلَ الْوَضِيعُ تَكَبَّرَ . وَقَالَ بَزَرْجَمْهَرَ: وَجَدْنَا التَّوَاضُعَ مَعَ الْجَهْلِ وَالْبُخْلِ , أَحْمَدَ مِنْ الْكِبْرِ مَعَ الْأَدَبِ وَالسَّخَاءِ . وَقَالَ ابْنُ السَّمَّاكِ لِلرَّشِيدِ: تَوَاضُعُك فِي شَرَفِك أَفْضَلُ مِنْ شَرَفِك . وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: الْكِبْرُ ذُلٌّ وَالتَّوَاضُعُ رِفْعَةٌ وَالْمَزْحُ وَالضَّحِكُ الْكَثِيرُ سُقُوطُ وَالْحِرْصُ فَقْرٌ وَالْقَنَاعَةُ عِزَّةٌ وَالْيَأْسُ مِنْ صُنْعِ الْإِلَهِ قُنُوطُ وَقِيلَ: التَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ قَوْمَ نُوحٍ شَمَخَتْ الْجِبَالُ , وَتَوَاضَعَ الْجُودِيُّ فَرَفَعَهُ فَوْقَ الْجِبَالِ وَجَعَلَ قَرَارَ السَّفِينَةِ عَلَيْهِ فَسُبْحَانَ مَنْ تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّةِ جَبَرُوتِ عَظَمَتِهِ , وَخَضَعَ لِجَلَالِ عَظِيمِ حِكْمَتِهِ
(الثَّانِيَةُ) مِنْ التَّوَاضُعِ الْمَذْمُومِ تَوَاضُعُك لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ . وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم " مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِأَجْلِ غِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ " . وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ خَضَعَ لِغَنِيٍّ وَوَضَعَ لَهُ نَفْسَهُ إعْظَامًا وَطَمَعًا فِيمَا قِبَلَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا مَرُوءَتِهِ وَشَطْرُ دِينِهِ . وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ طُرُقٍ وَاهِيَةٍ حَتَّى ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَكُلُّ مَا يُرْوَى بِمَعْنَى ذَلِكَ فَهُوَ وَاهٍ . قَالَهُ فِي التَّمْيِيزِ . وَفِي الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَجَدْت فِي التَّوْرَاةِ أَرْبَعَةَ أَسْطُرٍ مُتَوَالِيَاتٍ إحْدَاهُنَّ مَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَظَنَّ أَنْ لَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَهُوَ مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ . الثَّانِيَةُ: وَمَنْ شَكَا مُصِيبَتَهُ فَإِنَّمَا شَكَا رَبَّهُ . الثَّالِثَةُ: مَنْ حَزِنَ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَقَدْ سَخِطَ قَضَاءَ رَبِّهِ . وَالرَّابِعَةُ: مَنْ تَضَعْضَعَ لِغَنِيٍّ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ . وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ -: التَّكَبُّرُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ تَوَاضُعٌ . وَقَالَ بَعْضُ الْفَلَاسِفَةِ: أَظْلَمُ النَّاسِ لِنَفْسِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يُكْرِمُهُ .
(الثَّالِثَةُ) فِي بَعْضِ حِكَمٍ وَأَشْعَارٍ تَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ . قِيلَ - لِبَزَرْجَمْهَرَ -: أَيُّ الْعُيُوبِ أَعْسَرُ؟ قَالَ: الْعُجْبُ وَاللَّجَاجُ . وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الْكِبْرُ وَالْإِعْجَابُ يَسْلُبَانِ الْفَضَائِلَ وَيُكْسِبَانِ الرَّذَائِلَ . وَمَرَّ بَعْضُ أَوْلَادِ الْمُهَلَّبِ بِمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ , فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا بُنَيَّ لَوْ تَرَكْتَ هَذَا الْخُيَلَاءَ لَكَانَ أَجْمَلَ , فَقَالَ أَوَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: أَعْرِفُك مَعْرِفَةً جَيِّدَةً , أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ , وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ , وَأَنْتَ بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ . فَأَرْخَى الْفَتَى رَأْسَهُ وَكَفَّ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ . وَقَالَ الْأَحْنَفُ: عَجِبْت لِمَنْ جَرَى فِي مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ كَيْفَ يَتَكَبَّرُ . وَنَظَرَ أَفْلَاطُونُ إلَى رَجُلٍ جَاهِلٍ مُعْجَبٍ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي مِثْلُكَ فِي ظَنِّك , وَأَنَّ أَعْدَائِي مِثْلُك فِي الْحَقِيقَةِ . وَرَأَى رَجُلًا يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ فَقَالَ: جَعَلَنِي اللَّهُ مِثْلَك فِي نَفْسِك , وَلَا جَعَلَنِي اللَّهُ مِثْلَك فِي نَفْسِهِ . وَقَالَ مَنْصُورٌ الْفَقِيهُ: تَتِيهُ وَجِسْمُك مِنْ نُطْفَةٍ وَأَنْتَ وِعَاءٌ لِمَا تَعْلَمُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَحْسَنُ أَخْلَاقِ الْفَتَى وَأَتَمُّهَا تَوَاضُعُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ وَأَقْبَحُ شَيْءٍ أَنْ يَرَى الْمَرْءُ نَفْسَهُ رَفِيعًا وَعِنْدَ الْعَالَمِينَ وَضِيعُ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ يَسَارًا كَتَبَ إلَى بَعْضِ الْوُلَاةِ بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ: لَا تَشْرَهَنَّ فَإِنَّ الذُّلَّ فِي الشَّرَهِ وَالْعِزَّ فِي الْحِلْمِ لَا فِي الطَّيْشِ وَالسَّفَهِ وَقُلْ لِمُغْتَبِطٍ فِي التِّيهِ مِنْ حُمْقٍ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي التِّيهِ لَمْ تَتِهْ التِّيهُ مَفْسَدَةٌ لِلدِّينِ مَنْقَصَةٌ لِلْعَقْلِ مَهْلَكَةٌ لِلْعِرْضِ فَانْتَبِهْ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِقْصَاءِ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي آفَاتِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَمَدْحِ التَّوَاضُعِ مِنْ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ , وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ النَّاظِمُ رحمه الله تعالى (وَ) يُكْرَهُ لِلْإِنْسَانِ (تَرْكُ) لُبْسِ اللِّبَاسِ (الْمُعَوَّدِ) أَيْ الْمُعْتَادِ لِلُبْسِهِ مِنْ قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَرِدَاءٍ وَغَيْرِهَا . وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ غَيْرِ زِيِّ بَلَدِهِ بِلَا عُذْرٍ كَمَا هُوَ مَنْصُوصُ الْإِمَامِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ مَلَابِسَ بَلَدِهِ لِئَلَّا يُشَارَ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ , وَيَكُونَ ذَلِكَ حَامِلًا لَهُمْ عَلَى غَيْبَتِهِ فَيُشَارِكَهُمْ فِي إثْمِ الْغَيْبَةِ لَهُ . وَفِي كِتَابِ التَّوَاضُعِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا مَرْفُوعًا نَهَى عَنْ الشَّهْرَتَيْنِ , وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ . (فَائِدَةٌ) سُئِلَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيُّ عَنْ طَالِبِ عِلْمٍ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ , وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قُرَى الْبَرِّ , ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ وَعَشِيرَتِهِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ وَتَرَكَ زِيَّ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ لَمَّا اتَّصَفَ بِالصِّفَتَيْنِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الزِّيَّيْنِ تَزَيَّا , لِأَنَّهُ إنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مِنْهُمْ , وَإِنْ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ . وَهَذَا وَاضِحٌ . وَلَعَلَّ كَلَامَ عُلَمَائِنَا لَا يُخَالِفُهُ . وَمُرَادُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَيُكْرَهُ خِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ يَعْنِي بِلَا حَاجَةٍ تَدْعُو إلَى خِلَافِهِمْ , فَإِنَّ مَنْ صَارَ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ فِي أَيِّ مِصْرٍ كَانَ أَوْ بَلْدَةٍ كَانَتْ غَالِبًا , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَطْوَلُ ذَيْلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا بِلَا الْأُزُرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لَتَزْدَدِ (وَأَطْوَلُ ذَيْلِ) ثَوْبِ (الْمَرْءِ) يَعْنِي الذَّكَرَ أَيْ يَنْتَهِي طُولُهُ إِ (لَ) ى (الْكَعْبِ) وَاحِدُ الْكَعْبَيْنِ , وَهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي جَانِبَيْ الرِّجْلِ . قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكَعْبُ هُوَ الْعَظْمُ النَّاشِزُ عِنْدَ مُلْتَقَى السَّاقِ وَالْقَدَمِ . وَأَنْكَرَ الْأَصْمَعِيُّ قَوْلَ النَّاسِ: إنَّهُ فِي ظَهْرِ الْقَدَمِ انْتَهَى . وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى .
(وَ) أَطْوَلُ ذَيْلِ ثَوْبِ (النِّسَاءِ) حَيْثُ كُنَّ لَابِسَاتِهِ (بِلَا) لُبْسِ (الْأُزُرِ) جَمْعُ إزَارٍ وَهُوَ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْحَقْوَيْنِ فَمَا تَحْتَهُمَا , وَيُجْمَعُ جَمْعَ قِلَّةٍ عَلَى آزِرَةٍ وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ أُزُرٌ بِضَمَّتَيْنِ مِثْلُ حِمَارٍ وَحُمُرٌ , وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ , فَيُقَالُ إزَارٌ لَبِسْتُهُ وَلَبِسْتُهَا وَالْمِئْزَرُ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُهُ وَالْجَمْعُ مَآزِرُ وَائْتَزَرْتُ لَبِسْت الْإِزَارَ وَأَصْلُهُ بِهَمْزَتَيْنِ الْأُولَى هَمْزَةُ وَصْلٍ وَالثَّانِيَةُ تَاءُ " افْتَعَلْتُ " . إذَا عَلِمْت هَذَا فَيَكُونُ انْتِهَاءُ طُولِ ذَيْلِ ثَوْبِ الْمَرْأَةِ حَيْثُ لَا إزَارَ وَهُوَ الْمِلْحَفَةُ إمَّا (شِبْرًا) وَهُوَ بِالْكَسْرِ مَا بَيْنَ أَعْلَى الْإِبْهَامِ وَأَعْلَى الْخِنْصِرِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ . وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَجَمْعُهُ أَشْبَارٌ (أَوْ) يَكُونُ انْتِهَاءُ ذَيْلِ ثَوْبِهَا (ذِرَاعًا) بِذِرَاعِ الْيَدِ , وَهُوَ بِكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ طَرَفِ الْمِرْفَقِ إلَى طَرَفِ الْأُصْبُعِ الْوُسْطَى , وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ أَكْثَرُ , وَجَمْعُهُ أَذْرُعٌ وَذُرْعَانٌ بِالضَّمِّ . وَقَوْلُهُ (لَتَزْدَدِ) اللَّامُ لِلْأَمْرِ وَ " تَزْدَدْ " فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ . وَالْمُرَادُ أَنَّ النِّسَاءَ حَيْثُ كُنَّ بِلَا أُزُرٍ , وَهِيَ الْمَلَاحِفُ كَنِسَاءِ الْبَرِّ وَنِسَاءِ الْعَرَبِ وَنَحْوِهِنَّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُنَّ سَرَاوِيلُ وَلَا خِفَافٌ تَسْتُرُ أَقْدَامَهُنَّ يُسْتَحَبُّ لَهُنَّ أَنْ تَكُونَ ذُيُولُ ثِيَابِهِنَّ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا تَزْدَادُ بِذَلِكَ الشِّبْرِ أَوْ الذِّرَاعِ عَنْ ذَيْلِ الرَّجُلِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: وَيَزِيدُ ذَيْلُ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَيْلِ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ الشِّبْرِ إلَى الذِّرَاعِ , وَقَدَّمَهُ ابْنُ تَمِيمٍ . وَقَالَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ: هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَمْشِي بَيْنَ الرِّجَالِ كَنِسَاءِ الْعَرَبِ , فَأَمَّا نِسَاءُ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ فَذَيْلُهَا كَذَيْلِ الرَّجُلِ . وَفِي الرِّعَايَةِ الْكُبْرَى بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ ذَيْلَ نِسَاءِ الْمُدُنِ فِي الْبُيُوتِ كَذَيْلِ الرِّجَالِ قَالَ: وَتُرْخِيهِ الْبَرْزَةُ وَنِسَاءُ الْبَرِّ عَلَى الْأَرْضِ دُونَ الذِّرَاعِ , وَقِيلَ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ , وَقِيلَ يُكْرَهُ مَا نَزَلَ عَنْهُ أَوْ ارْتَفَعَ بِنَصٍّ عَلَيْهِ انْتَهَى . وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ نِسَاءِ الْمُدُنِ وَغَيْرِهِنَّ ; لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا قُلْت: إذَنْ تَبْدُو أَقْدَامُهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ , قَالَ: فَذِرَاعٌ وَلَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ " فَظَاهِرُ هَذَا كَرَاهَةُ مَا زَادَ عَلَى الذِّرَاعِ . وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: " رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ شِبْرًا , ثُمَّ اسْتَزَدْنَهُ فَزَادَهُنَّ شِبْرًا , فَكُنَّ يُرْسِلْنَ إلَيْنَا فَنَذْرَعُ لَهُنَّ ذِرَاعًا " فَأَفَادَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ قَدْرَ الذِّرَاعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ , وَأَنَّهُ شِبْرَانِ بِشِبْرِ الْيَدِ الْمُعْتَدِلَةِ كَمَا فِي الْفَتْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدْ (وَأَشْرَفُ) بِمَعْنَى أَنْزَهُ وَأَفْضَلُ (مَلْبُوسِ) رَجُلٍ أَنْ يَكُونَ مُنْتَهِيًا (إلَى نِصْفِ سَاقِهِ) أَيْ سَاقِ الرَّجُلِ اللَّابِسِ لِذَلِكَ الْمَلْبُوسِ لِبُعْدِهِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ (وَمَا) أَيْ وَالْمَلْبُوسُ الَّذِي يَنْتَهِي فِي إسْبَالِهِ حَتَّى يَصِلَ (تَحْتَ كَعْبِ) اللَّابِسِ (فَاكْرَهَنْهُ) أَمْرٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا (وَصَعِّدْ) أَمْرٌ مِنْ الصُّعُودِ , أَيْ ارْفَعْ الْمَلْبُوسَ وَلَا تَتْرُكْهُ يَنْزِلُ إلَى تَحْتِ الْكَعْبَيْنِ ; فَإِنَّ مَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ فِي النَّارِ كَمَا أَسْلَفْنَا فِي الْأَخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ . وَقَدْ سَأَلَ بَعْضُ السَّلَفِ نَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مَا مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم " مَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ مِنْ الْإِزَارِ فَفِي النَّارِ " أَمِنَ الْكَعْبَيْنِ أَوْ مِنْ الْإِزَارِ؟ فَقَالَ: وَمَا ذَنْبُ الْإِزَارِ إنَّمَا أَرَادَ اللَّحْمَ وَالْعَظْمَ وَالْجِلْدَ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى تَنَاهَى إلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قَدْ (وَلِلرُّصْغِ) بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ . وَفِي نُسَخٍ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ , وَهُمَا لُغَتَانِ , وَهُوَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْكَفِّ وَالسَّاعِدِ كَمَا فِي النِّهَايَةِ يَعْنِي الْعَظْمَ الَّذِي يَلِي الْأُصْبُعَ الْوُسْطَى , وَأَمَّا مَا يَلِي الْإِبْهَامَ فَكُوعٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَيُقَالُ فِيهِ كَاعٌ . وَالطَّرَفُ الَّذِي يَلِي الْخِنْصَرَ يُسَمَّى كُرْسُوعًا وَمَا يَلِي إبْهَامَ الرِّجْلِ يُسَمَّى بُوعًا . وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: فَعَظْمٌ يَلِي الْإِبْهَامَ كُوعٌ وَمَا يَلِي لِخِنْصَرِهِ الْكُرْسُوعُ وَالرُّسْغُ مَا وَسَطْ وَعَظْمٌ يَلِي إبْهَامَ رَجْلٍ مُلَقَّبٌ بِبُوعٍ فَخُذْ بِالْعِلْمِ وَاحْذَرْ مِنْ الْغَلَطْ
وَهُوَ بِضَمِّ الْكَافِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ مَدْخَلُ الْيَدِ وَمَخْرَجُهَا مِنْ الثَّوْبِ . وَالْجَمْعُ أَكْمَامٌ وَكَمِمَةٌ . وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَوِعَاءُ الطَّلْعِ وَغِطَاءٌ لِلنُّورِ (الْمُصْطَفَى) هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَمَعْنَاهُ الْخَالِصُ مِنْ الْخَلْقِ , وَلَا شَكَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْخَلَائِقِ كَافَّةً (فَإِنْ ارْتَخَى) كُمُّهُ صلى الله عليه وسلم (تَنَاهَى) فِي ارْتِخَائِهِ (إلَى أَقْصَى) أَيْ أَطْرَافِ (أَصَابِعِهِ) الشَّرِيفَةِ جَمْعُ أُصْبُعٍ تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ , وَذَكَرَ ابْنُ مَالِكٍ فِيهَا عَشْرَ لُغَاتٍ: فَتْحُ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ , وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا , وَضَمُّ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ , وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا , وَكَسْرُ الْهَمْزَةِ مَعَ فَتْحِ الْبَاءِ , وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا . وَالْعَاشِرَةُ أُصْبُوعٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْبَاءِ وَبَعْدَهَا وَاوٌ وَقَوْلُ النَّاظِمِ رحمه الله تعالى (قَدْ) أَيْ فَقَطْ . وَأَشَارَ بِأَحَدِ شَطْرَيْ هَذَا الْبَيْتِ إلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ كُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الرُّسْغِ " . وَبِالشَّطْرِ الثَّانِي إلَى مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ قَمِيصًا وَكَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ , وَكَانَ كُمُّهُ إلَى الْأَصَابِعِ " وَلَفْظُ أَبِي الشَّيْخِ يَلْبَسُ قَمِيصًا فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ مُسْتَوِيَ الْكُمَّيْنِ بِأَطْرَافِ الْأَصَابِعِ " . وَرَوَى الْبَزَّارُ بِرِجَالٍ ثِقَاتٍ عَنْ أَنَسٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَعْرَابِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَسْمَاءَ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ يَزِيدَ الْعُقَيْلِيِّ رضي الله عنهم قَالُوا " كَانَ كُمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الرُّسْغِ " . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ قَمِيصًا وَكَانَ كُمَّاهُ مَعَ الْأَصَابِعِ " . (تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ) قَالَ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ لِلشَّمْسِ الشَّامِيِّ: هَذَا الْحَدِيثُ - يَعْنِي حَدِيثَ الْكُمِّ إلَى الرُّسْغِ - مَخْصُوصٌ بِالْقَمِيصِ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ فِي السَّفَرِ . وَكَانَ يَلْبَسُ فِي الْحَضَرِ قَمِيصًا مِنْ قُطْنٍ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ وَكُمَّاهُ مَعَ الْأَصَابِعِ . ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ السُّنَنِ . ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقَ انْتَهَى
وَلِلرَّجُلِ اكْرَهْ عَرْضَ زِيقٍ بِنَصِّهِ وَلَا يُكْرَهُ الْكَتَّانُ فِي الْمُتَأَكِّدِ (وَلِلرَّجُلِ) دُونَ النِّسَاءِ (اكْرَهْ) تَنْزِيهًا (عَرْضَ زِيقِ) الْقَمِيصِ وَهُوَ مَا أَحَاطَ بِالْعُنُقِ (بِنَصِّهِ) أَيْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه . وَيُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ النُّسَخِ بِفِضَّةٍ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ تَصْحِيفٌ فَاحِشٌ . قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُخَاطُ لِلنِّسَاءِ هَذِهِ الزِّيقَاتُ الْعِرَاضُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَ شَيْءٌ عَرِيضٌ فَأَكْرَهُهُ هُوَ مُحْدَثٌ , وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ وَسِيطٌ لَمْ نَرَ بِهِ بَأْسًا . وَقَطَعَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه لِوَلَدِهِ الصِّغَارِ قُمُصًا فَقَالَ لِلْخَيَّاطِ صَيِّرِ زِيقَهَا دِقَاقًا وَكَرِهَ أَنْ يَصِيرَ عَرِيضًا . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَكَرِهَ أَحْمَدُ الزِّيقَ الْعَرِيضَ لِلرَّجُلِ . وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ . قَالَ الْقَاضِي: إنَّمَا كُرِهَ لِإِفْضَائِهِ إلَى الشُّهْرَةِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا كَرِهَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الْإِفْرَاطَ جَمْعًا بَيْنَ قَوْلَيْهِ . وَفِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ صَوَّبَ عَدَمَ كَرَاهَةِ عَرْضِ الزِّيقِ لِلْمَرْأَةِ قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ النَّاظِمِ فِي آدَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ إلَّا لِلرَّجُلِ وَقَطَعَ فِي الْإِقْنَاعِ بِاخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِالرِّجَالِ
(وَلَا يُكْرَهُ الْكَتَّانُ) أَيْ لَا يُكْرَهُ لُبْسُ الثِّيَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْكَتَّانِ , سَوَاءٌ كَانَتْ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ غَيْرَهُمَا (فِي الْمُتَأَكِّدِ) مِنْ الْقَوْلَيْنِ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَيُبَاحُ الْكَتَّانُ إجْمَاعًا , وَالنَّهْيُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ بَاطِلٌ . وَنَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ كَرِهَهُ لِلرِّجَالِ انْتَهَى . وَلَا شَكَّ فِي الْإِبَاحَةِ , وَإِنَّمَا ذَكَرْت الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ النَّاظِمِ أَنَّ ثَمَّ قَوْلًا غَيْرَ مُتَأَكِّدٍ بِالْكَرَاهَةِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سُتْرَةً أَتَمُّ مِنْ التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ (وَلَا بَأْسَ) أَيْ لَا حَرَجَ وَلَا كَرَاهَةَ (فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ) جَمْعُ سَرَاوِيلَاتٍ أَوْ جَمْعُ سِرْوَالٍ وَسِرْوَالَةٍ أَوْ سِرْوِيلٍ بِكَسْرِهِنَّ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: لُغَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبٌ , وَقَدْ يُذَكَّرُ قَالَ: وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْوِيلٌ . قَالَ: وَالسَّرَاوِينُ بِالنُّونِ لُغَةٌ , وَالشِّرْوَالُ بِالشِّينِ لُغَةٌ . وَفِي الْمَطْلَعِ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا سَرَاوِيلُ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَعْجَمِيٌّ عُرِّبَ إلَّا أَنَّهُ أَشْبَهَ مِنْ كَلَامِهِمْ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ . وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ فِيهِ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ ذُو وَجْهَيْنِ الصَّرْفِ وَتَرْكِهِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَجْهًا وَاحِدًا انْتَهَى . وَقَوْلُ النَّاظِمِ (سُتْرَةً) يَحْتَمِلُ النَّصْبَ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ أَوْ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ , وَيَحْتَمِلُ الرَّفْعَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هِيَ سُتْرَةٌ (أَتَمُّ) فِي السَّتْرِ وَأَكْمَلُ فِيهِ (مِنْ التَّأْزِيرِ) أَيْ التَّغْطِيَةِ . يُقَالُ ائْتَزَرَ بِهِ وَتَأَزَّرَ تَأْزِيرًا , وَلَا تَقُلْ اتَّزَرَ . وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ وَلَعَلَّهُ مِنْ تَحْرِيفِ الرُّوَاةِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ: وَتُسَنُّ السَّرَاوِيلُ . وَفِي التَّلْخِيصِ: لَا بَأْسَ . قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه: السَّرَاوِيلُ أَسْتَرُ مِنْ الْإِزَارِ , وَلِبَاسُ الْقَوْمِ كَانَ الْإِزَارَ , فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا , وَهُوَ أَظْهَرُ خِلَافًا لِلرِّعَايَةِ . وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: الْأَفْضَلُ مَعَ الْقَمِيصِ السَّرَاوِيلُ مِنْ غَيْرِ حَاجَتِهِ إلَى الْإِزَارِ . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ " خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَشْيَخَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَكَرَ الْخَبَرَ , وَفِيهِ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَتَسَرْوَلَونَ وَلَا يَأْتَزِرُونَ , فَقَالَ تَسَرْوَلُوا وَائْتَزِرُوا وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ " قَالَ فِي الْفُرُوعِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ . وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ فِيهِ نَظَرٌ . وَفِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رضي الله عنه عَنْ لُبْسِهِ يَعْنِي السَّرَاوِيلَ , فَقَالَ: هُوَ أَسْتَرُ مِنْ الْأُزُرِ وَلِبَاسُ الْقَوْمِ كَانَ الْأُزُرَ . قَالَ النَّاظِمُ: فَتَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ انْتَهَى كَلَامُ النَّاظِمِ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ بِعَرَفَاتٍ مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ لِلْمُحْرِمِ " وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَهُمْ . قَالَ: وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَى جَيْشِهِ بِأَذْرَبَيْجَانَ إذَا قَدِمْتُمْ مِنْ غَزَاتِكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ وَالْأَقْبِيَةِ وَالْبَسُوا الْأُزُرَ وَالْأَرْدِيَةَ . قَالَ النَّاظِمُ: فَدَلَّ عَلَى كَرَاهِيَتِهِ لَهَا , وَأَنَّهَا غَيْرُ زِيِّهِمْ . وَجَزَمَ فِي الْإِقْنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسُنِّيَّةِ لُبْسِ السَّرَاوِيلِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ بِلَا رَيْبٍ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَوَّلُ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عليه الصلاة والسلام , كَانَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ حَتَّى كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَرَى الْأَرْضُ مَذَاكِيرَهُ , فَاشْتَكَى إلَى اللَّهِ - تَعَالَى , فَهَبَطَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه السلام بِخِرْقَةٍ مِنْ الْجَنَّةِ , فَفَصَّلَهَا جِبْرِيلُ سَرَاوِيلَ , وَقَالَ: ادْفَعْهَا إلَى سَارَّةَ تَخِيطُهُ , وَكَانَ اسْمُهَا يَسَارَةَ فَلَمَّا خَاطَتْهُ وَلَبِسَهُ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَسْتَرَهُ يَا جِبْرِيلُ فَإِنَّهُ نِعْمَ السِّتْرُ لِلْمُؤْمِنِ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام أَوَّلَ مَنْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ , وَأَوَّلُ مَنْ فَصَّلَهُ جِبْرِيلُ , وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَهُ سَارَّةُ بَعْدَ إدْرِيسَ عليه السلام . ذَكَرَهُ فِي الْأُنْسِ الْجَلِيلِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما . وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ إدْرِيسَ يَعْنِي بَعْدَ إدْرِيسَ فِي مُجَرَّدِ الْخِيَاطَةِ , فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ خَاطَ . وَأَمَّا كَوْنُ إدْرِيسَ خَاطَ السَّرَاوِيلَ فَيُنَافِي أَوَّلِيَّتَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ ; وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي الْأَوَائِلِ , فَكَانَتْ سَارَّةُ أَوَّلَ مَنْ خَاطَتْ مِنْ النِّسَاءِ فَصَارَ الْغَزْلُ أَفْضَلَ الْحِرَفِ لِلنِّسَاءِ , وَالْخِيَاطَةُ لِلرِّجَالِ , كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ . وَقَالَ فِي الْأَوَائِلِ قَالَ إبْرَاهِيمُ عليه السلام إذَا مُتُّ فَاغْسِلُونِي مِنْ تَحْتِهِ . وَقَالَ أَيْضًا: أَوَّلُ مَنْ فَصَّلَ وَخَاطَ مِنْ النِّسَاءِ سَارَّةُ عليها السلام
(الثَّانِي) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا؟ قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: قَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى عليهما السلام أَنَّهُمَا لَبِسَاهُ وَلَبِسَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم . وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَسَلْمَانَ وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ . وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْوَفِيِّ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: " إنَّ النَّجَاشِيَّ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنِّي قَدْ زَوَّجْتُك امْرَأَةً مِنْ قَوْمِك وَهِيَ عَلَى دِينِك أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ , وَأَهْدَيْتُ لَك هَدِيَّةً جَامِعَةً قَمِيصًا وَسَرَاوِيلَ وَعِطَافًا وَخُفَّيْنِ سَاذَجَيْنِ , فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا " قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ: قُلْت لِلْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ مَا الْعِطَافُ؟ قَالَ: الطَّيْلَسَانُ . وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَبْت أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ بَزًّا مِنْ هَجَرَ إلَى مَكَّةَ فَأَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ , وَثَمَّ وِزَانٍ يَزِنُ بِالْأَجْرِ , فَقَالَ: إذَا زِنْت فَأَرْجِحْ وَأَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرَةَ الْأَسْدِيِّ قَالَ " قَدِمْت قَبْلَ مُهَاجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , فَاشْتَرَى مِنِّي سَرَاوِيلَ فَأَرْجَحَ لِي " قَالَ فِي الْفَتْحِ وَمَا كَانَ لِيَشْتَرِيَهُ عَبَثًا وَإِنْ كَانَ غَالِبُ لُبْسِهِ الْإِزَارَ . وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ " دَخَلْت يَوْمًا السُّوقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَلَسَ إلَى الْبَزَّازِينَ فَاشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ " الْحَدِيثَ وَفِيهِ " فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ , وَإِنَّك لَتَلْبَسُ السَّرَاوِيلَ؟ قَالَ: أَجَلْ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِنِّي أُمِرْت بِالتَّسَتُّرِ " وَفِيهِ يُوسُفُ بْنُ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ ضَعِيفٌ . قَالَ فِي الْهَدْيِ: اشْتَرَى صلى الله عليه وسلم السَّرَاوِيلَ وَالظَّاهِرُ إنَّمَا اشْتَرَاهُ لِيَلْبَسَهُ . ثُمَّ قَالَ: وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ لَبِسَ السَّرَاوِيلَ وَكَانُوا يَلْبَسُونَهُ فِي زَمَانِهِ وَبِإِذْنِهِ . قُلْت: وَمَيْلُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ فِي الْهَدْيِ إلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَبِسَهَا وَكَذَا الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: لَمْ يَلْبَسَهَا عليه الصلاة والسلام وَلَا يَلْزَمُ مِنْ شِرَائِهِ لَهَا لُبْسُهَا . وَقَالَهُ الْمَنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . (الثَّالِثُ) التُّبَّانُ فِي مَعْنَى السَّرَاوِيلِ . قَالَ فِي الْآدَابِ الْكُبْرَى: رَوَى وَكِيعٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَأْمُرُ غِلْمَانَهَا بِالتَّبَابِينِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ . قَالَ فِي الْمَطَالِعِ: التُّبَّانُ شِبْهُ السَّرَاوِيلِ قَصِيرَةُ السَّاقِ . وَقَالَ الْحَجَّاوِيُّ فِي لُغَةِ إقْنَاعِهِ: التُّبَّانُ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ هُوَ سَرَاوِيلُ قَصِيرَةٌ جِدًّا . وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هُوَ مِقْدَارُ شِبْرٍ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ فَقَطْ وَيَكُونُ لِلْمَلَّاحِينَ وَجَمْعُهُ تَبَابِينُ انْتَهَى . فَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ , وَفَهِمْت مَا هُنَالِكَ مِنْ كَوْنِ السَّرَاوِيلِ سُنَّةَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ , وَالنَّبِيِّ النَّبِيلِ عَلَى أَحَدِ الْأَقَاوِيلِ , وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ , وَاخْتِيَارَ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ (فَالْبَسْهُ) أَيْ السَّرَاوِيلَ (وَاقْتَدِ) بِمَنْ ذَكَرْنَا لَك أَنَّهُمْ لَبِسُوهُ فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ لَا سِيَّمَا الِاقْتِدَاءُ . (بِسُنَّةِ) سَيِّدِنَا (إبْرَاهِيمَ) الْخَلِيلِ عليه الصلاة والسلام (فِيهِ) أَيْ فِي لُبْسِهِ (وَ) سُنَّةَ نَبِيِّنَا وَحَبِيبِنَا (أَحْمَدَ) الْمُخْتَارِ (وَأَصْحَابِهِ) الْأَخْيَارِ , عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ (وَ) لَكِنْ لُبْسُهُمْ (الْأُزُرَ) جَمْعُ إزَارٍ (أَشْهَرُ) مِنْ لُبْسِهِمْ السَّرَاوِيلَ (أكد) فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ التَّأْكِيدِ وَحُرِّكَ بِالْكَسْرِ لِلْقَافِيَةِ . قَالَ فِي الْفُرُوعِ فِي الِادِّهَانِ وَكَوْنِهِ غِبًّا أَوْ مُطْلَقًا لِحَاجَةٍ لِلْخَبَرِ . وَاخْتَارَ شَيْخُنَا فِعْلَ الْأَصْلَحِ لِلْبَدَنِ كَالْغُسْلِ بِمَاءٍ حَارٍّ بِبَلَدٍ رَطْبٍ , لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ , وَلِأَنَّهُ فِعْلُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم , وَأَنَّ مِثْلَهُ نَوْعُ اللُّبْسِ وَالْمَأْكَلِ , وَأَنَّهُمْ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ , وَيَلْبَسُ مِنْ لِبَاسِ بَلَدِهِ , مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدُوا قُوتَ الْمَدِينَةِ وَلِبَاسَهَا
|