الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
(تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ) فِي الْكَفَاءَةِ رِوَايَتَانِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه . إحْدَاهُمَا أَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ , فَإِذَا فَاتَتْ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الزَّوْجَةِ وَهِيَ بِهِ , لِمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَا تُنْكِحُوا النِّسَاءَ إلَّا الْأَكْفَاءَ , وَلَا يُزَوِّجْهُنَّ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ " . وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه " لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوِي الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ " وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَلَمْ يَصِحَّ , كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا . وَقَالَ سَلْمَانُ لِجَرِيرٍ: إنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَا يَتَقَدَّمُ فِي صَلَاتِكُمْ , وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُكُمْ . إنَّ اللَّهَ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَجَعَلَهُ فِيكُمْ . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْكَفَاءَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا , وَهِيَ الْمَذْهَبُ . نَعَمْ هِيَ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ كَغَيْرِهِ: وَالْكَفَاءَةُ فِي زَوْجٍ شَرْطٌ لِلُزُومِ النِّكَاحِ لَا لِصِحَّتِهِ فَيَصِحَّ مَعَ فَقْدِهَا فَهِيَ حَقٌّ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ كُلِّهِمْ حَتَّى مَنْ يُحَدِّثَ , فَلَوْ زُوِّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَلِمَنْ لَمْ يَرْضَ الْفَسْخَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ جَمِيعِهِمْ فَوْرًا وَمُتَرَاخِيًا . وَيَمْلِكُهُ الْأَبْعَدُ مَعَ رِضَا الْأَقْرَبِ وَالزَّوْجَةُ . نَعَمْ لَوْ زَالَتْ الْكَفَاءَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ اخْتَصَّ الْخِيَارُ بِالزَّوْجَةِ فَقَطْ . وَالْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الدِّينُ , فَلَا يَكُونُ الْفَاجِرُ وَالْفَاسِقُ كُفُؤًا لِعَفِيفٍ عَدْلٍ . الثَّانِي: الْمَنْصِبُ وَهُوَ النَّسَبُ , فَلَا يَكُونُ الْأَعْجَمِيُّ وَهُوَ مَنْ لَيْسَ مِنْ الْعَرَبِ كُفُؤًا لِعَرَبِيَّةٍ . الثَّالِثُ: الْحُرِّيَّةُ , فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ وَلَوْ مُبَعَّضًا كُفُؤًا لِحُرَّةٍ وَلَوْ عَتِيقَةً . الرَّابِعُ: الصِّنَاعَةُ , فَلَا يَكُونُ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ دَنِيئَةٍ كَحِجَامَةٍ , وَحِيَاكَةٍ , وَزَبَّالٍ , وَكَسَّاحٍ كُفُؤًا لِبِنْتِ مَنْ هُوَ صَاحِبُ صِنَاعَةٍ جَلِيلَةٍ كَالتَّاجِرِ وَالْبَزَّازِ وَصَاحِبِ الْعَقَارِ . الْخَامِسُ: الْيَسَارُ بِمَالٍ بِحَسَبِ مَا يَجِبُ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ . قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ بِحَيْثُ لَا تَتَغَيَّرُ عَلَيْهَا عَادَتُهَا عِنْدَ أَبِيهَا فِي بَيْتِهِ , فَلَا يَكُونُ الْعَسِرُ كُفُؤًا لِمُوسِرَةٍ , وَلَيْسَ مَوْلَى الْقَوْمِ كُفُؤًا لَهُمْ , وَيَحْرُمُ تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ إلَّا بِرِضَاهَا وَيَفْسُقُ بِهِ الْوَلِيُّ , وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ . وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَوْلِ , وَلَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْمَرْأَةِ فَلَيْسَتْ الْكَفَاءَةُ شَرْطًا فِي حَقِّهَا لِلرَّجُلِ . الثَّانِي: مَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ كَالشَّافِعِيَّةِ , وَالرِّوَايَةُ الْمَرْجُوحَةُ عِنْدَنَا مَحْجُوجٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ زَيْدًا مَوْلَاهُ ابْنَةَ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ , وَزَوَّجَ ابْنَهُ أُسَامَةَ رضي الله عنه فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ الْفِهْرِيَّةِ الْقُرَشِيَّةَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدًا ابْنَةَ الْوَلِيدِ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ , أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ . الثَّالِثُ: الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ , وَالْعَجَمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَكْفَاءُ . لِأَنَّ الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيَّ تَزَوَّجَ ضُبَاعَةَ ابْنَةَ الزُّبَيْرِ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم , وَزَوَّجَ أَبُو بَكْرٍ أُخْتَه الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ , وَزَوَّجَ عَلِيٌّ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهم . فَبَنُو هَاشِمٍ كَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ . وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ غَيْرَ الْمُنْتَسِبِ إلَى الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْمَشْهُورِينَ لَيْسَ كُفُؤًا لِلْمُنْتَسِبِ إلَيْهِمَا , وَلَيْسَ الْمُحْتَرِفُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْعَالِمِ . وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه أَنَّ الْكَفَاءَةَ الدِّينُ وَالنَّسَبُ , اخْتَارَهُ الْخِرَقِيُّ . وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الْأَصْحَابِ: إذَا قُلْنَا الْكَفَاءَةَ لِحَقِّ اللَّهِ اُعْتُبِرَ الدِّينُ فَقَطْ , وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ: أَلَا إنَّمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ وَالْكَرَمُ وَحُبُّك لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ وَالسَّقَمُ وَلَيْسَ عَلَى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ إذَا حَقَّقَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .
وَلَا تَنْكِحْنَ فِي الْفَقْرِ إلَّا ضَرُورَةً وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تُهْدَ وَتَهْتَدِ (وَلَا تَنْكِحْنَ) نَهْيٌ مُؤَكَّدٌ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ (فِي الْفَقْرِ) وَهُوَ ضِدُّ الْغِنَى لِأَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ شَرَفًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ , وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكَيْنَا وَأَمِتْنِي مِسْكَيْنَا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ , وَأَنَّ الْفُقَرَاءَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ , لَكِنَّهُ سُلَّمٌ يَتَرَقَّى بِهِ إلَى الْخَوْضِ فِي عِرْضِهِ وَعَدِمِ اكْتِرَاثِ النَّاسِ بِهِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ , وَهُوَ مَظِنَّةُ طُمُوحِ نَظَرِ الزَّوْجَةِ إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ , وَاسْتِشْرَافِ نَفْسِهَا إلَى أَهْلِ الْبِزَّةِ مِنْ الرِّجَالِ , وَنُبُوِّ نَظَرِهَا عَنْ بَعْلِهَا الْفَقِيرِ وَإِنْ كَانَ يُعَادِلُ عِنْدَ اللَّهِ أَضْعَافَ أَهْلِ الْغِنَى وَالنَّوَالِ , فَلِهَذَا حَذَّرَ النَّاظِمُ الْحَكِيمُ وَالنَّاصِحُ لِإِخْوَانِهِ عَلَى حَسَبِ مَا مَنَحَهُ الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ , مِنْ النِّكَاحِ فِي فَقْرِهِ (الزَّوْجَ) (إلَّا) إذَا كَانَ ذَلِكَ (ضَرُورَةً) أَيْ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ مِنْ خَوْفِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِدُخُولِ النَّارِ , وَغَضَبِ الْجَبَّارِ , وَالْحَشْرِ مَعَ الْأَشْقِيَاءِ الْفُجَّارِ , إلَى دَارِ الْبَوَارِ , وَالذُّلِّ وَالصِّغَارِ , أَوْ مِنْ خَوْفِ دَوَاعِي الزِّنَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ , فَإِذَا خَافَ ذَلِكَ تَزَوَّجَ حِينَئِذٍ . وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى امْرَأَةً صَالِحَةً مِنْ بَيْتٍ صَالِحٍ يَغْلِبُ عَلَى بَيْتِهَا الْفَقْرُ لِتَرَى مَا يَأْتِي بِهِ إلَيْهَا كَثِيرًا , وَلِيَتَزَوَّجَ مِنْ مُقَارِبِهِ فِي السِّنِّ , وَلِيُتِمَّ نَقْصَهُ بِحُسْنِ الْأَخْلَاقِ وَبَذْلِ الْبَشَاشَةِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ . وَإِنَّمَا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ مَعَ عِلْمِهِ بِفَضِيلَتِهِ , وَحَثَّ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فِي عِدَّةِ أَخْبَارٍ صَحِيحَةٍ , وَآثَارٍ مُرِيحَةٍ ; وَالْأَمْرُ بِهِ فِي الْكِتَاب الْقَدِيمِ الْمُنَزَّلِ , عَلَى النَّبِيِّ الْكَرِيمِ الْمُرْسَلِ ; لِأَنَّ الْفَقِيرَ إذَا تَزَوَّجَ اشْتَغَلَ بَالُهُ بِالنَّفَقَةِ وَتَحْصِيلِ الْمَعَاشِ , وَرُبَّمَا صَارَ صَاحِبَ عِيَالٍ فَيَضِيقُ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَا يَزَالُ يَحْتَالُ . فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحَلَالِ تَرَخَّصَ فِي تَنَاوُلِ الشُّبُهَاتِ ; فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَعْفِ دِينِهِ . وَرُبَّمَا مَدَّ يَدَهُ إلَى الْحَرَامِ , وَارْتَكَبَ الْآثَامَ , فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِهِ . وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ كَانَ مُوسِرًا لِأَنْ يَنْكِحَ ثُمَّ لَمْ يَنْكِحْ فَلَيْسَ مِنِّي " هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ . وَأَبُو نَجِيحٍ تَابِعِيٌّ وَاسْمُهُ يَسَارٌ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتٌ وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكِّيِّ . فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ لَا يُذَمُّ عَلَى عَدَمِ الزَّوَاجِ . فَالْمُؤْمِنُ إذَا عَلِمَ ضَعْفَهُ عَنْ الْكَسْبِ اجْتَهَدَ فِي التَّعَفُّفِ عَنْ النِّكَاحِ وَتَقْلِيلِ النَّفَقَةِ , لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ , الَّذِي فَقَدْنَا فِيهِ الْمُعِينَ وَالْإِخْوَانَ . فَلَا بَيْتُ مَالٍ مُنْتَظِمٍ ; وَلَا خَلِيلٌ صَادِقُ الْمَوَدَّةِ فِي مَالِهِ نَتَوَسَّعُ وَنَحْتَكِمُ . فَلَيْسَ لِلْفَقِيرِ الدَّلِيلُ مِنْ صِدِّيقٍ وَلَا خَلِيلٍ . إلَّا الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وَقَدْ كَانَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَتَفَقَّدُ أَكَابِرَ الْعُلَمَاءِ . فَقَدْ بَعَثَ إلَى مَالِكٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ . وَإِلَى ابْنِ لَهِيعَةَ بِأَلْفِ دِينَارٍ . وَأَعْطَى عَمَّارَ بْنَ مَنْصُورٍ أَلْفَ دِينَارٍ وَجَارِيَةً بِثَلَثِمِائَةِ دِينَارٍ . وَمَا زَالَ الزَّمَانُ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ; إلَى أَنْ آلَ الْحَالُ إلَى انْمِحَاقِ الرِّجَالِ ; وَصَارَ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بْنَ لُكَعٍ فَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
وَلَمَّا نَهَى النَّاظِمُ الْفَقِيرَ عَنْ النِّكَاحِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ شَهْوَةَ الْفَرْجِ شَدِيدَةٌ وَيَحْتَاجُ إلَى كَسْرِهَا بِنَوْعٍ مَا أَرْشَدَهُ إلَى كَسْرِ الشَّهْوَةِ بِالصَّوْمِ فَقَالَ (وَلُذْ) أَيْ اسْتَتِرْ وَاحْتَمِ مِنْ اللَّوْذِ بِالشَّيْءِ وَهُوَ الِاسْتِتَارُ بِهِ كَاللِّوَازِ مُثَلَّثَةٌ وَاللِّيَاذُ وَالْمُلَاوَذَةُ وَالْمَلَاذُ الْحِصْنُ أَيْ تَسَتَّرْ وَتَحَصَّنْ (بِوِجَاءِ الصَّوْمِ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: الْوِجَاءُ أَنْ تُرَضَّ أُنْثَيَا الْفَحْلِ رَضًّا شَدِيدًا يُذْهِبُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ , وَيَتَنَزَّلُ فِي قِطْعَةِ الْخِصَاءِ وَقَدْ وَجِيءَ وِجَاءً فَهُوَ مَوْجُوءٌ , وَقِيلَ هُوَ أَنْ يُوجَأَ الْعُرُوقُ وَالْخَصِيَتَانِ بِحَالِهِمَا , وَالْمُرَادُ أَنَّ الصَّوْمَ يَقْطَعُ النِّكَاحَ . وَإِضَافَةُ الْوِجَاءِ إلَى الصَّوْمِ فِي كَلَامِ النَّاظِمِ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفِهَا . أَيْ وَلُذْ بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ وِجَاءٌ . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ , وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالْبَاءَةُ وَالْبَاءُ النِّكَاحُ . وَفِي لَفْظٍ " عَلَيْكُمْ بِالْبَاءِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: وَبَيْنَ اللَّفْظَيْنِ فَرْقٌ , فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَمْرَ الْعَزَبِ بِالتَّزْوِيجِ , وَالثَّانِي يَقْتَضِي أَمْرَ الْمُتَزَوِّجِ بِالْبَاءَةِ , وَالْبَاءَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْوَطْءِ . وَقَوْلُهُ " مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ " فُسِّرَتْ الْبَاءَةُ بِالْوَطْءِ , وَفُسِّرَتْ بِمُؤَنِ النِّكَاحِ وَلَا يُنَافِي التَّفْسِيرُ الْأَوَّلُ إذْ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا مُؤَنِ الْبَاءَةِ ثُمَّ قَالَ " وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ " فَأَرْشَدَهُمْ إلَى الدَّوَاءِ الشَّافِي الَّذِي وُضِعَ لِهَذَا الْأَمْرِ , ثُمَّ نَقَلَهُمْ عَنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَكْسِرُ شَهْوَةَ النَّفْسِ وَيُضَيِّقُ عَلَيْهَا مَجَارِيَ الشَّهْوَةِ , فَإِنَّهَا تَقْوَى بِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ , وَقَلَّ مَنْ أَدَمْنَ الصَّوْمَ إلَّا وَمَاتَتْ شَهْوَتُهُ أَوْ ضَعُفَتْ انْتَهَى مُلَخَّصًا . فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ (تَهْدِ) مَنْ اقْتَدَى بِك (وَتَهْتَدِ) أَنْتَ فِي نَفْسِك إلَى السَّبِيلِ الَّتِي أَرْشَدَ إلَيْهَا الطَّبِيبُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ , فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمُ وَأَحْكُمُ وَأَرْحَمُ . فَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ أَقْوَمُ وَأَسْلَمُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَرَوَى ابْنُ مَاجَةَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا " مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ , إنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ , وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ , وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ " وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّاظِمُ بِقَوْلِهِ:
الْحَافِظَةُ لَهُ فِي مَغِيبِهِ وَمَشْهَدِهِ وَخَيْرُ غِذَاء مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجَ مَنْظَرًا وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ (وَخَيْرُ النِّسَاءِ) قَصَرَهُ ضَرُورَةً (مَنْ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي (سَرَّتْ) هِيَ أَيْ أَفْرَحَتْ , يُقَالُ سَرَّهُ سُرُورًا وَسُرًّا بِالضَّمِّ , وَسُرَى كَبُشْرَى , غِذَاء وَمَسَرَّةً أَفْرَحَهُ , وَسُرَّ هُوَ بِالضَّمِّ وَالِاسْمُ غِذَاء بِالْفَتْحِ (الزَّوْجَ) مَفْعُولُ سَرَّتْ (مَنْظَرًا) تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنْ فَاعِلٍ , أَيْ خَيْرُ النِّسَاءِ مَنْ سَرَّ الزَّوْجَ مَنْظَرُهَا (وَمَنْ) أَيْ امْرَأَةٌ أَوْ الَّتِي (حَفِظَتْهُ) أَيْ صَانَتْهُ وَحَفِظَتْ مَا اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ مِنْ نَفْسِهَا وَمَالِهِ (فِي مَغِيبِ) الزَّوْجِ عَنْهَا (وَمَشْهَدِ) مِنْهُ إلَيْهَا , فَتَحْفَظُ فَرْجَهَا وَجَمِيعَ نَفْسِهَا مِنْ كَلَامٍ وَنَظَرٍ وَتَمْكِينٍ مِنْ قُبْلَةٍ وَلَمْسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ , وَتَحْفَظُ مَالَهُ عَنْ الضَّيَاعِ وَالتَّبْذِيرِ , وَبَيْتَهُ عَنْ دُخُولِ مَنْ لَا يُرِيدُ دُخُولَهُ إلَيْهِ . رَوَى غِذَاء فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمَا جَيِّدٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " أَرْبَعٌ مَنْ أُعْطِيَهُنَّ فَقَدْ أُعْطِيَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَلْبًا شَاكِرًا , وَلِسَانًا ذَاكِرًا وَبَدَنًا عَلَى الْبَلَاءِ صَابِرًا , وَزَوْجَةً لَا تَبْغِيهِ حُوبًا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ " الْحُوبُ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَتُضَمُّ هُوَ الْإِثْمُ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غِذَاء رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ " وَرَوَاهُ غِذَاء وَابْنُ غِذَاء وَلَفْظُهُ قَالَ " إنَّمَا الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَلَيْسَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ " . وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ يَعْنِي ابْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " ثَلَاثٌ مِنْ السَّعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ تَرَاهَا تُعْجِبُك , وَتَغِيبُ فَتَأْمَنُهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك , وَالدَّابَّةُ تَكُونُ وَطِئَةً فَتُلْحِقُك بِأَصْحَابِك , وَالدَّارُ تَكُونُ وَاسِعَةً كَثِيرَةَ الْمَرَافِقِ . وَثَلَاثٌ مِنْ الشَّقَاءِ: الْمَرْأَةُ تَرَاهَا غِذَاء وَتَحْمِلُ لِسَانَهَا عَلَيْك , وَإِنْ غِبْت لَمْ تَأْمَنْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِك , وَالدَّابَّةُ تَكُونُ قَطُوفًا فَإِنْ ضَرَبْتهَا أَتْعَبَتْك وَإِنْ تَرَكْتهَا لَمْ تُلْحِقْك بِأَصْحَابِك , وَالدَّارُ تَكُونُ ضَيِّقَةً قَلِيلَةَ الْمَرَافِقِ " رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ غِذَاء الْحَضْرَمِيُّ فَإِنْ كَانَ حَفِظَهُ فَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِهِمَا . قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: مُحَمَّدٌ صَدُوقٌ وَثَّقَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ: ثَلَاثَةٌ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ: الدَّارُ الْوَسِيعَةُ إذَا كَانَتْ مَنِيعَةً , وَالْفَرَسُ السَّرِيعَةُ إذَا كَانَتْ تَلِيعَةً , وَالْمَرْأَةُ الْمُطِيعَةُ إذَا كَانَتْ بَدِيعَةً . وَمَعْنَى زِيَادَتِهَا فِي الْعُمْرِ أَنَّ صَاحِبَهَا يَرَى لِعَيْشِهِ لَذَّةً وَلِعُمُرِهِ بَرَكَةً , وَتَمْضِي أَيَّامُهُ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ , وَأَوْقَاتُهُ بِاللَّذَّةِ وَالْحُبُورِ بِخِلَافِ مَنْ رُمِيَ بِضِدِّ ذَلِكَ , فَإِنَّهُ عُرْضَةٌ لِلْمَهَالِكِ , لِمَا ضُيِّقَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَالِكِ , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا هُنَالِكَ
وَقَدْ رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا ابْنَ غِذَاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إنْ يَكُنْ الْخَيْرُ فِي شَيْءٍ فَفِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ " . وَفِي رِوَايَةٍ " الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثَةٍ: الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ " . وَفِي رِوَايَةٍ الشُّؤْمُ فِي أَرْبَعٍ فَزَادَ الْخَادِمَ . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا , فَقِيلَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُون مُسْتَثْنًى مِنْ حَدِيثٍ لَا طِيَرَةَ . وَقِيلَ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ يَقُولُونَ الشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ , الْمَرْأَةُ وَالدَّارُ وَالْفَرَسُ " فَسَمِعَ الرَّاوِي آخِرَ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ , وَهَذَا قَوْلُ عَائِشَةَ الصِّدِّيقَةِ رضي الله عنها وَعَنْ أَبِيهَا . وَقِيلَ شُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَشُؤْمُ جِيرَانِهَا وَأَذَاهُمْ , وَشُؤْمُ الْخَادِمِ سُوءُ خُلُقِهِ وَعَدَمُ تَعَهُّدِهِ لِمَا فُوِّضَ إلَيْهِ . وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالشُّؤْمِ هُنَا عَدَمُ الْمُوَافَقَةِ . وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ عَدَمُ وِلَادَتِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا وَتَعَرُّضِهَا لِلرَّيْبِ . وَشُؤْمُ الْفَرَسِ أَنْ لَا يُغْزَى عَلَيْهَا . وَقِيلَ حِرَانُهَا وَغَلَاءُ ثَمَنِهَا . وَقَالَ الْحَافِظُ الدِّمْيَاطِيُّ: وَمِنْ أَغْرَبِ مَا وَقَعَ لِي فِي تَأْوِيلِهِ مَا رَوَيْنَاهُ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ غِذَاء عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " الْبَرَكَةُ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدَّارِ " فَقَالَ يُوسُفُ سَأَلْت ابْنَ غِذَاء عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ سُفْيَانُ: سَأَلْت عَنْهُ الزُّهْرِيَّ فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: سَأَلْت عَنْهُ سَالِمًا فَقَالَ سَالِمٌ: سَأَلْت عَنْهُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما فَقَالَ: سَأَلْت عَنْهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " إذَا كَانَ الْفَرَسُ ضَرُوبًا فَهُوَ مَشْئُومٌ , وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ عَرَفَتْ زَوْجًا غَيْرَ زَوْجِهَا فَحَنَّتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ , وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَعِيدَةً عَنْ الْمَسْجِدِ لَا يُسْمَعُ فِيهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فَهِيَ مَشْئُومَةٌ , وَإِذَا كُنَّ بِغَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُنَّ مُبَارَكَاتٌ " . قُلْت: وَتَقَدَّمَ بُعْدُ الدَّارِ عَنْ الْمَسْجِدِ وَمَدْحُهُ فَلَعَلَّ مَا هُنَا إنْ صَحَّ لِعَدَمِ سَمَاعِ الْأَذَانِ دُونَ نَفْسِ الْبُعْدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . وَفِي غِذَاء وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الشَّطْرِ الْبَاقِي " وَرَوَاهُ غِذَاء بِلَفْظٍ " إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ نِصْفَ الدِّينِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي " .
"تَتِمَّةٌ " فِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمَلَاحَةِ وَالْجَمَالِ بِطَرِيقِ الْإِيجَازِ وَالْإِجْمَالِ . قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الْبَابِ التَّاسِعَ عَشَر مِنْ رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ: اعْلَمْ أَنَّ الْجَمَالَ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا , فَالْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ , وَهُوَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْجُودِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ , وَهَذَا الْجَمَالُ الْبَاطِنُ هُوَ مَحَلُّ نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ وَمَوْضِعُ مَحَبَّتِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ " وَهَذَا الْجَمَالُ يُزَيِّنُ الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ذَاتَ جَمَالٍ , فَيَكْسُو صَاحِبَهَا مِنْ الْجَمَالِ وَالْمَهَابَةِ وَالْحَلَاوَةِ بِحَسَبِ مَا اكْتَسَبَتْ رُوحُهُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ , فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يُعْطَى مَهَابَةً وَحَلَاوَةً بِحَسَبِ إيمَانِهِ , فَمَنْ رَآهُ هَابَهُ , وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبَّهُ , وَهَذَا أَمْرٌ مَشْهُودٌ بِالْعِيَانِ , فَإِنَّك تَرَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ الْمُحْسِنَ ذَا الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ مِنْ أَحْلَى النَّاسِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ أَسْوَدَ أَوْ غَيْرَ جَمِيلٍ , وَلَا سِيَّمَا إذَا رُزِقَ حَظًّا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنَّهَا تُنَوِّرُ الْوَجْهَ وَتُحَسِّنُهُ . وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النِّسَاءِ تُكْثِرُ صَلَاةَ اللَّيْلِ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ إنَّهَا تُحَسِّنُ الْوَجْهَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يَحْسُنَ وَجْهِي . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمَالَ لِلْبَاطِنِ أَحْسَنُ مِنْ الظَّاهِرِ أَنَّ الْقُلُوبَ لَا تَنْفَكُّ عَنْ تَعْظِيمِ صَاحِبِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالْمِيلِ إلَيْهِ , وَأَمَّا الْجَمَالُ الظَّاهِرُ فَزِينَةٌ خَصَّ اللَّهُ بِهَا بَعْضَ الصُّوَرِ عَنْ بَعْضٍ , وَهِيَ مِنْ زِيَادَةِ الْخَلْقِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ , قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ نَعْلُهُ حَسَنَةً وَثَوْبُهُ حَسَنًا أَفَذَلِكَ مِنْ الْكِبْرِ؟ فَقَالَ لَا إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ , الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ " فَبَطَرُ الْحَقِّ جَحْدُهُ وَدَفْعُهُ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ , وَغَمْطُ النَّاسِ النَّظَرُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ وَالِاسْتِصْغَارِ لَهُمْ , وَتَقَدَّمَ هَذَا مَبْسُوطًا . وَالْجَمَالُ الظَّاهِرُ مِنْ نِعَمَ اللَّهِ أَيْضًا عَلَى عِبَادِهِ يُوجِبُ الشُّكْرَ . وَشُكْرُهُ التَّقْوَى وَالصِّيَانَةُ , فَكُلَّمَا شَكَرَ مَوْلَاهُ عَلَى مَا أَوْلَاهُ زَادَهُ اللَّهُ جَمَالًا وَمَنَحَهُ كَمَالًا . وَأَمَّا إنْ بَذَلَ الْجَمَالَ فِي الْمَعَاصِي عَادَ وَحْشَةً وَشِينًا كَمَا شُوهِدَ مِنْ عَالَمٍ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ . فَكُلُّ مَنْ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي حُسْنِهِ وَجَمَالِهِ انْقَلَبَ قُبْحًا وَشِينًا يَشِينُهُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ . انْتَهَى . وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: وَمَا يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوهِهِمْ إذَا كَانَتْ الْأَفْعَالُ غَيْرُ حِسَانِ فَلَا تَجْعَلْ الْحُسْنَ الدَّلِيلَ عَلَى الْفَتَى فَمَا كُلُّ مَصْقُولِ الْحَدِيدِ يَمَانِي وَقَالَ آخَرُ وَأَحْسَنَ: صُنْ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلَّا فَيَذْهَبُ فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالًا وَيُكْسِبُ وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَالُهُ وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبُ فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللَّهَ إنْ تُرِدْ دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبُ يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَةً وَأَمَّا الْمَعَاصِي غِذَاء لِلْحُسْنِ تَسْلُبُ وَتُكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بِهَائِهِ وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبُ فَسَارِعْ إلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدْ غِذَاء غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبُ فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَنَّةٍ بِهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظًى تَتَلَهَّبُ
وَفِي حَدِيثٍ ضَعِيفٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَقِيلَ مَوْضُوعٌ " ثَلَاثَةٌ يُجَلِّينَ الْبَصَرَ: النَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ , وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي , وَإِلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ " . أَوْرَدَهُ غِذَاء فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ , وَأَوْرَدَ حَدِيثَ " ثَلَاثَةٌ يَزِدْنَ فِي قُوَّةِ الْبَصَرِ: الْكُحْلُ بِالْإِثْمِدِ , وَالنَّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ , وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ " وَعَزَاهُ إلَى أَبِي الْحَسَنِ الْعِرَاقِيِّ فِي فَوَائِدِهِ عَنْ غِذَاء بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ . قَوْلُهُ: يُجَلِّينَ الْبَصَرَ قَالَ غِذَاء: بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ فَمُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ . وَيُرْوَى فِي لَفْظٍ " ثَلَاثَةٌ تَجْلُو الْبَصَرَ: الْخُضْرَةُ وَالْمَاءُ الْجَارِي , وَالْوَجْهُ الْحَسَنُ " وَنَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَقَالَ: ثَلَاثَةٌ تَجْلُو عَنْ الْقَلْبِ الْحَزَنْ الْمَاءُ وَالْخُضْرَةُ وَالْوَجْهُ الْحَسَنْ وَيُرْوَى فِي حَدِيثٍ " النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يُورِثُ الْفَرَحَ , وَالنَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يُورِثُ غِذَاء " وَهَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِحَدِيثٍ فِيمَا أَظُنُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . غِذَاء تَقَبُّضُ الْوَجْهِ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا كَانَ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ الْحَسَنِ يَزِيدُ فِي الْبَصَرِ فَيَقْتَضِي أَنَّ النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ الْقَبِيحِ يَنْقُصُ مِنْهُ , وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رضي الله عنه وَعَنْ آبَائِهِ يَقُولُ: الْجَمَالُ مَرْحُومٌ وَقَالُوا: شَفِيعُ الْحُسْنِ مَقْبُولٌ وَنَظَمَ ذَلِكَ ابْنُ غِذَاء غِذَاء فَقَالَ: وَيْلِي عَلَى مَنْ أَطَارَ النَّوْمَ فَامْتَنَعَا وَزَادَ قَلْبِي إلَى أَوْجَاعِهِ وَجَعَا كَأَنَّمَا الشَّمْسُ فِي أَعْطَافِهِ لَمَعَتْ حُسْنًا أَوْ الْبَدْرُ مِنْ آزَارِهِ طَلَعَا مُسْتَقْبِلٌ بِاَلَّذِي يَهْوَى وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الذُّنُوبُ وَمَعْذُورٌ بِمَا صَنَعَا فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ يَمْحُو إسَاءَتَهُ مِنْ الْقُلُوبِ وَجِيهٌ حَيْثُ مَا شَفَعَا قَالَ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُنَجِّمُ: كُنْت يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُعْتَضِدِ وَهُوَ مُقَطِّبٌ إذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَكَانَ مِنْ الْحُسْنِ عَلَى غَايَةٍ , فَلَمَّا رَآهُ مِنْ بَعِيدٍ ضَحِكَ وَقَالَ يَا يَحْيَى مَنْ الَّذِي يَقُولُ: فِي وَجْهِهِ شَافِعٌ . الْأَبْيَاتَ؟ فَقُلْت ابْنُ غِذَاء , فَقَالَ لِلَّهِ دَرُّهُ ثُمَّ اسْتَنْشَدَنِي الْأَبْيَاتَ فَأَنْشَدْته إيَّاهَا وَقَدْ انْقَلَبَ تَقْطِيبُهُ ضَحِكًا وَسُرُورًا .
وَفِيهِ حِكَايَتَانِ لَطِيفَتَانِ وَفَرَّقَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْجَمِيلَةِ وَالْمَلِيحَةِ , فَقَالَ الْجَمِيلَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِبَصَرِك عَلَى الْبُعْدِ , وَالْمَلِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَأْخُذُ بِقَلْبِك عَلَى الْقُرْبِ . وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ فِي الْأَغَانِي: قَالَتْ سُكَيْنَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ يَوْمًا لِعَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ: أَنَا أَجْمَلُ مِنْك , وَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ أَنَا أَجْمَلُ مِنْك , فَاخْتَصَمَتَا إلَى عُمَرَ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ , فَقَالَ: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا , أَمَّا أَنْتِ يَا سُكَيْنَةُ فَأَمْلَحُ , وَأَمَّا أَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَأَجْمَلُ , فَقَالَتْ سُكَيْنَةُ: قَضَيْت وَاَللَّهِ لِي عَلَيْهَا . وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: مَا أَجْمَلَكَ يَا أَبَا صَفْوَانَ , قَالَ: كَيْفَ تَقُولِينَ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِي عَمُودُ الْجَمَالِ وَلَا رِدَاؤُهُ وَلَا بُرْنُسُهُ , أَمَّا عَمُودُهُ فَالْقَوَامُ وَالِاعْتِدَالُ وَأَنَا قَصِيرٌ , وَأَمَّا رِدَاؤُهُ فَالْبَيَاضُ وَلَسْت بِأَبْيَضَ , وَأَمَّا بُرْنُسُهُ فَسَوَادُ الشَّعْرِ وَجُعُودَتِهِ وَأَنَا أَصْلَعُ , وَلَوْ قُلْت مَا أَمْلَحُك لَصَدَقْت . وَفِي كِتَابِ فِقْهِ اللُّغَةِ قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ: إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بِهَا مَسْحَةٌ مِنْ جَمَالٍ فَهِيَ جَمِيلَةٌ وَضِيئَةٌ , فَإِذَا أَشْبَهَ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي الْحُسْنِ فَهِيَ حُسَانَةٌ , فَإِذَا اسْتَغْنَتْ بِجَمَالِهَا عَنْ الزِّينَةِ فَهِيَ غَانِيَةٌ , فَإِنْ كَانَتْ لَا تُبَالِي أَنْ لَا تَلْبَسَ ثَوْبًا حَسَنًا وَلَا تَتَقَلَّدُ قِلَادَةً حَسَنَةً فَهِيَ مِعْطَالٌ , فَإِذَا كَانَ حُسْنُهَا بَائِنًا كَأَنَّهُ قَدْ غِذَاء فَهِيَ وَسِيمَةٌ , فَإِذَا قُسِمَ لَهَا حَظٌّ وَافِرٌ مِنْ الْحُسْنِ فَهِيَ قَسِيمَةٌ , فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا يَسُرُّ الرَّوْعَ فَهِيَ رَائِعَةٌ , فَإِذَا غَلَبَتْ النِّسَاءَ بِحُسْنِهَا فَهِيَ بَاهِرَةٌ . وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: الصَّبَاحَةُ فِي الْوَجْهِ , وَالْوَضَاءَةُ فِي الْبَشَرَةِ , وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ , وَالْحَلَاوَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ , وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ , غِذَاء فِي اللِّسَانِ . وَالرَّشَاقَةُ فِي الْقَدِّ , وَاللَّبَاقَةُ فِي الشَّمَائِلِ . وَكَمَالُ الْحُسْنِ الشَّعْرُ . وَقَالَ غَيْرُهُ: وَالْبَرَاعَةُ فِي الْجِيدِ . وَالرِّقَّةُ فِي الْأَطْرَافِ , وَأَكْثَرُ هَذَا التَّنْزِيلِ عَلَى التَّقْرِيبِ , وَالتَّحْقِيقِ مِنْهُ بَعِيدٌ . وَقَالَ رَجُلٌ لِأَعْرَابِيَّةٍ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ فَصِفِي لِي النِّسَاءَ , قَالَتْ لَهُ: عَلَيْك بِالْبَضَّةِ الْبَيْضَاءِ الدَّرْمَاءِ اللَّعْسَاءِ الشَّمَّاءِ الْجَيْدَاءِ ; غِذَاء السَّبْحَلَةِ , الْمُدْمَجَةِ الْمَتْنِ , الْخَمِيصَةِ الْبَطْنِ , ذَاتِ الثَّدْيِ النَّاهِدِ , وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ , وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ , وَالْعَجِيزَةِ الْوَثِيرَةِ , وَالسَّاقِ الْمَمْكُورَةِ , وَالْقَدَمِ الصَّغِيرَةِ فَإِنْ أَصَبْتهَا فَأَعْطِهَا الْحُكْمَ فَإِنَّهُ غُنْمٌ مِنْ الْغُنْمِ . قَالَ فِي كِفَايَة الْمُتَحَفِّظِ: الْبَضَّةُ الرَّقِيقَةُ الْجِلْدِ . وَفِي الْقَامُوسِ: دَرِمَ كَفَرِحِ اسْتَوَى وَالْكَعْبُ أَوْ الْعَظْمُ وَأَرَاهُ اللَّحْمَ حَتَّى لَمْ يَبْنِ لَهُ حَجْمٌ . وَامْرَأَةٌ دَرْمَاءُ لَا يَتَبَيَّنُ كُعُوبُهَا وَمَرَافِقُهَا . وَاللَّعْسَاءُ هِيَ الَّتِي فِي شَفَتِهَا سَوَادٌ . وَكَذَا اللَّمْيَاءُ وَالشَّمَّاءُ هِيَ الَّتِي فِي أَنْفِهَا ارْتِفَاعٌ وَاسْتِوَاءٌ ; فَإِنْ ارْتَفَعَ وَسَطُ الْأَنْفِ عَنْ طَرَفَيْهِ فَهُوَ أَقْنَى وَالْمَرْأَةُ قَنْوَاءُ وَالْجَيْدَاءُ طَوِيلَةُ الْجِيدِ , وَالْجِيدُ بِالْكَسْرِ الْعُنُقُ أَوْ مُقَلَّدُهُ أَوْ مَقْدِمُهُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ , وَفِيهِ جَارِيَةٌ غِذَاء ضَخْمَةٌ جَيِّدَةُ الْخَلْقِ طَوِيلَةٌ . وَالسَّبْحَلَةُ الْحَسَنَةُ الْخَلْقِ . قَالَ الْمُتَنَبِّي: سَارُوا غِذَاء لَهَا كِفْلٌ يَكَادُ عِنْدَ الْقِيَامِ يُقْعِدُهَا غِذَاء أَسْمَرُ مُقْبِلُهَا سَبْحَلَةٌ أَبْيَضُ مَجْرَدُهَا وَالْمَتْنُ الظَّهْرُ . وَمَعْنَى مُدْمَجَةٍ أَيْ مَلْفُوفَةِ الْمَتْنِ , وَقَوْلُهَا: الْخَمِيصَةُ الْبَطْنِ أَيْ خَالِيَةُ الْبَطْنِ بِمَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ مُنْتَفِخَةِ الْبَطْنِ , يُقَالُ خَمِصَ الْبَطْنُ بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ خَلَا . وَيُقَالُ: رَجُلٌ غِذَاء بِالضَّمِّ وَالتَّحْرِيكِ وَخَمِيصُ الْحَشَى أَيْ ضَامِرَ الْبَطْنِ وَهِيَ خَمْصَانَةٌ وَخَمِيصَةٌ كَمَا فِي الْقَامُوسِ , وَقَوْلُهَا ذَاتُ الثَّدْيِ النَّاهِدِ أَيْ صَاحِبَةَ الثَّدْيِ الْمُرْتَفِعِ ; وَالْفَرْعِ الْوَارِدِ أَيْ الشَّعْرِ الطَّوِيلِ ; وَالْعَيْنِ النَّجْلَاءِ أَيْ الْوَاسِعَةِ ; وَالْحَدَقَةِ الْكَحْلَاءِ ; الْحَدَقَةُ إنْسَانُ الْعَيْنِ وَالْكُحْلُ سَوَادُهَا خِلْقَةً ; وَالْعَجِيزَةُ الْكِفْلُ ; وَقَوْلُهَا الْوَثِيرَةُ أَيْ كَثِيرَةُ اللَّحْمِ أَوْ السَّمِينَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْمُضَاجَعَةِ كَمَا فِي الْقَامُوسِ . وَقَوْلُهَا وَالسَّاقُ الْمَمْكُورَةُ الْغَلِيظَةُ الْحَسْنَاءُ ; وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ الْحُورَ الْعِينَ بِأَوْصَافٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَنَّهُنَّ حُورٌ ; وَالْحَوَرُ شِدَّةُ بَيَاضِ أَبْيَضِ الْعَيْنِ وَشِدَّةُ سَوَادِ أَسْوَدِهَا . وَقِيلَ الْعَيْنُ الَّتِي بَدَنُهَا أَسْوَدُ كَعَيْنِ الْمَهَا وَبَقَرِ الْوَحْشِ . وَالْعَيْنُ جَمْعُ عَيْنَاءُ ; وَهِيَ وَسِيعَةُ الْعَيْنِ . وَوَصَفَهُنَّ بِأَنَّهُنَّ كَوَاعِبُ جَمْعُ كَاعِبٍ ; وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي قَدْ تَكَعَّبَ ثَدْيُهَا وَاسْتَدَارَ وَلَمْ يَتَدَلَّ إلَى أَسْفَلَ ; وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ خَلْقِ النِّسَاءِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِسِنِّ الشَّبَابِ . إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ . وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يُشَوِّقُ أَهْلَ الْإِيمَانِ إلَى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ ; لِيَدْخُلُوا فَسَيَّحَ الْجِنَانِ . وَيَتَنَعَّمُوا بِالْحُورِ الْحِسَانِ . وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْإِحْسَانِ . ثُمَّ إنَّ النَّاظِمَ رحمه الله تعالى ذَكَرَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَسُرُّ زَوْجَهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا أَوْصَافًا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهَا فَقَالَ:
قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ (قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ) أَيْ لَيْسَتْ طَوِيلَةَ اللِّسَانِ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِ ; وَلَا هِيَ قَبِيحَةُ الْأَلْفَاظِ بِحَيْثُ أَنَّهَا تَسْتَطِيلُ عَلَى بَعْلِهَا بِكَلَامِهَا وَلَا هِيَ بِالْبَذِيَّةِ بَلْ قَصِيرَةُ اللِّسَانِ وَالْأَلْفَاظِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا بِمَا فِيهِ مَنْفَعَةٌ . وَهَذَا قَصْرٌ مَعْنَوِيٌّ (قَصِيرَةُ بَيْتِهَا) أَيْ مَقْصُورَةٌ عَلَى بَيْتِهَا لَا تَدُورُ فِي الْبُيُوتِ وَالْأَسْوَاقِ . بَلْ لَا تَزَالُ مُقِيمَةً فِي بَيْتِهَا مَقْصُورَةً فِيهِ . وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قوله تعالى: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَقْصُورَاتُ الْمَحْبُوسَاتُ . قَالَ الْإِمَام الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ إلَى مَنَازِلِ الْأَفْرَاحِ . وَفِيهِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُنَّ مَحْبُوسَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَهُمْ فِي الْخِيَامِ . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ قُصِرْنَ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ وَلَا يَطْمَحْنَ إلَى سِوَاهُمْ ; ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ (قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ) أَيْ لَا تَطْمَحُ بِطَرْفِهَا إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (عَنْ كُلِّ) رَجُلٍ (أَبْعَدِ) بَلْ طَرْفُهَا مَقْصُورٌ عَلَى زَوْجِهَا فَقَطْ . وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَّحِدٌ هُوَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي . لَكِنَّ هُنَا قَاصِرَاتٌ الطَّرْفِ بِأَنْفُسِهِنَّ وَهُنَاكَ مَقْصُورَاتٌ ; وَكَأَنَّ مَنْ فَسَرَّ قوله تعالى: وَأَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يُجِيبُونَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصَفَهُنَّ بِصِفَاتِ النِّسَاءِ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْوَصْفِ . وَلَا يَلْزَمُ أَنَّهُنَّ لَا يُفَارِقْنَ الْخِيَامَ إلَى الْغُرَفِ وَالْبَسَاتِينِ . كَمَا أَنَّ نِسَاءَ الْمُلُوكِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ الْمُخَدَّرَاتِ الْمَصُونَاتِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْرُجْنَ فِي سَفَرٍ وَغَيْرِهِ إلَى مُنْتَزَهٍ وَبُسْتَانٍ وَنَحْوِهِ ; فَوَصْفُهُنَّ اللَّازِمُ لَهُنَّ الْقَصْرُ فِي الْبَيْتِ ; وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُنَّ مَعَ الْخَدَمِ الْخُرُوجُ إلَى الْبَسَاتِينِ وَنَحْوِهَا . وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ مَقْصُورَاتٌ قُلُوبُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فِي خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ .
مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَالِ قَالَ فِي حَادِي الْأَرْوَاحِ: يُسْتَحَبُّ السَّعَةُ مِنْ الْمَرْأَةِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: وَجْهُهَا وَصَدْرُهَا وَكَاهِلُهَا - وَهُوَ مَا بَيْنَ كَتِفَيْهَا - وَجَبْهَتُهَا . وَيُسْتَحَبُّ مِنْهَا الْبَيَاضُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: لَوْنُهَا وَفَرْقُهَا وَثَغْرُهَا وَبَيَاضُ عَيْنِهَا , وَالسَّوَادُ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: عَيْنُهَا وَحَاجِبُهَا وَهُدْبُهَا وَشَعْرُهَا . وَيُسْتَحَبُّ الطُّولُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ قِوَامُهَا وَعُنُقُهَا وَشَعْرُهَا وَبَنَانُهَا . وَيُسْتَحَبُّ الْقِصَرُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ وَهِيَ مَعْنَوِيَّةٌ: لِسَانُهَا وَيَدُهَا وَرِجْلُهَا وَعَيْنُهَا , فَتَكُونُ قَاصِرَةَ الطَّرْفِ , قَصِيرَةَ الرِّجْلِ عَنْ الْخُرُوجِ , قَصِيرَةَ اللِّسَانِ عَنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ , قَصِيرَةَ الْيَدِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا يَكْرَهُ الزَّوْجُ وَعَنْ بَذْلِهِ . وَيُسْتَحَبُّ الرِّقَّةُ مِنْهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: خَصْرُهَا وَفَرْقُهَا وَحَاجِبَاهَا وَأَنْفُهَا . وَقَالَ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: وَمِمَّا يُسْتَحْسَنُ فِي الْمَرْأَةِ طُولُ أَرْبَعَةٍ: وَهِيَ أَطْرَافُهَا وَقَامَتُهَا وَشَعْرُهَا وَعُنُقُهَا , وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَنَانَ . وَقَالَ وَقِصَرُ أَرْبَعَةٍ: يَدُهَا وَرِجْلُهَا وَلِسَانُهَا وَعَيْنُهَا , فَلَا تَبْذُلُ مَا فِي بَيْتِ زَوْجِهَا , وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا , وَلَا تَسْتَطِيلُ بِلِسَانِهَا , وَلَا تَطْمَحُ بِعَيْنِهَا . قَالَ وَحُمْرَةُ أَرْبَعَةٍ: لِسَانُهَا وَخَدُّهَا وَشَفَتُهَا مَعَ لَعَسٍ وَإِشْرَابُ بَيَاضِهَا بِحُمْرَةٍ . وَقَالَ فِي الرِّقَّةِ: أَنْفُهَا وَبَنَانُهَا وَخَصْرُهَا وَحَاجِبُهَا , وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَرْقَ هُنَا . قَالَ وَغِلَظُ أَرْبَعَةٍ: سَاقُهَا وَمِعْصَمُهَا وَعَجِيزَتُهَا وَذَاكَ مِنْهَا . وَقَالَ فِي الْوَسَاعِ مِنْهَا: جَبِينُهَا وَوَجْهُهَا وَعَيْنُهَا وَصَدْرُهَا , وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَاهِلَ . قَالَ وَضِيقُ أَرْبَعَةٍ: فَمُهَا وَمَنْخَرُهَا وَخَرْقُ أُذُنِهَا وَذَاكَ مِنْهَا . قَالَ فَهَذِهِ يَعْنِي الَّتِي تَجْمَعُ هَذِهِ الْأَوْصَافَ أَحَقُّ بِقَوْلِ غِذَاء: لَوْ أَنَّ عَزَّةَ خَاصَمَتْ شَمْسَ الضُّحَى فِي الْحُسْنِ عِنْدَ مُوَفَّقٍ لَقَضَى لَهَا انْتَهَى . وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُدَوِّنَةِ فِي الْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ مَا نَصُّهُ: رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَاسِرَةِ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي الْمَرْأَةِ أَرْبَعَةٌ سُودٌ , وَأَرْبَعَةٌ بِيضٌ , وَأَرْبَعَةٌ حُمْرٌ , وَأَرْبَعَةٌ كِبَارٌ , وَأَرْبَعَةٌ صِغَارٌ , وَأَرْبَعَةٌ وَاسِعَةٌ , وَأَرْبَعَةٌ ضَيِّقَةٌ , فَذَكَرَهَا عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّمْنَا , إلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ الْفَرْقَ فِي الْبِيضِ بِالظُّفْرِ قَالَ إلَّا أَنْ يُصْبَغَ . وَفِي الْحُمْرِ قَالَ الْوَجْنَتَانِ وَالشَّفَتَانِ وَاللِّسَانِ وَاللِّثَةِ . قَالَ وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْكِبَارُ فَالثَّدْيَانِ وَالْفَرْجُ وَالْعَجِيزَةُ وَالرُّكْبَتَانِ . وَقَالَ فِي الصِّغَارِ الْأُذُنَانِ وَالْفَمُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ . وَالْأَرْبَعَةُ الْوَاسِعَةُ الْجَبِينُ وَأُصُولُ الثَّدْيَيْنِ وَالْعَيْنَانِ وَالسُّرَّةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ثُمَّ أَرْشَدَ النَّاظِمُ إلَى الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَثِّ عَلَى نِكَاحِ ذَاتِ الدِّينِ الْوَلُودِ الْوَدُودِ فَقَالَ:
الْوَدُودَ الْوَلُودَ الْحَسِيبَةَ عَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرُ بِالْمُنَى الْ وَدُودِ الْوَلُودِ الْأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ (عَلَيْك) أَيْ الْزَمْ أَيُّهَا الْأَخُ الْمَرِيدُ النِّكَاحَ (بِ) نِكَاحِ (ذَاتِ) أَيْ صَاحِبَةِ (الدِّينِ) أَيْ الدَّيِّنَةِ مِنْ بَيْتِ دِينٍ وَأَمَانَةٍ وَعِفَّةٍ وَصِيَانَةٍ , إذْ الدِّيَانَةُ تَقْتَضِي ذَلِكَ كُلَّهُ , فَإِنْ فَعَلْت (تَظْفَرُ) أَيْ تَفُوزُ (بِالْمُنَى) أَيْ الْمَطْلُوبِ وَتَسْتَرِيحُ مِنْ الْهَمِّ وَالْعَنَاءِ . أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَالْبَزَّازُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ غِذَاء رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى إحْدَى خِصَالٍ: لِجَمَالِهَا وَمَالِهَا وَخُلُقِهَا وَدِينِهَا فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ تَرِبَتْ يَمِينُك " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا , فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك " . قَالَ الْحَافِظُ غِذَاء: قَوْلُهُ " تَرِبَتْ " كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا الْحَثُّ وَالتَّحْرِيضُ , وَقِيلَ هِيَ هُنَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْفَقْرِ , وَقِيلَ بِكَثْرَةِ الْمَالِ , وَاللَّفْظُ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا قَابِلٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا . قَالَ وَالْآخَرُ هُنَا أَظْهَرُ وَمَعْنَاهُ اظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْمَالِ أَكْثَرَ اللَّهُ مَالَك . وَرُوِيَ الْأَوَّلُ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ رَأَى الْفَقْرَ خَيْرًا لَهُ مِنْ الْغِنَى , وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم , انْتَهَى . وَقَالَ فِي الْمَطَالِعِ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم " تَرِبَتْ يَدَاك " قَالَ مَالِكٌ: خَسِرَتْ يَدَاك . وَقَالَ ابْنُ غِذَاء وَغَيْرُهُ: اسْتَغْنَتْ , وَأَنْكَرَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَيْ لَا يُقَالُ فِي الْغِنَى إلَّا أَتْرَبَ . وَقَالَ غِذَاء: إنَّمَا هُوَ تَرِبْت أَيْ اسْتَغْنَيْت , وَهِيَ لُغَةٌ لِلْقِبْطِ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ , وَهِيَ تَرُدُّهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ وَمَعْرُوفُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ ضَعُفَ عَقْلُك أَتَجْهَلُ هَذَا؟ وَقِيلَ افْتَقَرَتْ يَدَاك مِنْ الْعِلْمِ . وَقِيلَ هُوَ حَضٌّ عَلَى تَعَلُّمِ مِثْلٍ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِلَّهِ دَرُّك . وَقِيلَ امْتَلَأَتْ تُرَابًا . وَقِيلَ تَرِبَتْ أَصَابَهَا التُّرَابُ , وَمِنْهُ تَرِبَ جَبِينُك وَأَصْلُهُ الْقَتِيلُ يُقْتَلُ فَيَقَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَيَتَتَرَّبُ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ . قَالَ: وَالْأَصَحُّ فِيهِ وَفِي مِثْلِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ دُعَاءٌ يُدْعَمُ بِهِ الْكَلَامُ وَيُوصَلَ تَهْوِيلًا لِلْخَبَرِ , مِثْلَ اُنْجُ لَا أَبًا لَكَ , وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ , وَهَوَتْ أُمُّهُ , وَوَيْلُ أُمِّهِ , وَحَلْقَى عَقْرَى , وَأَلَّ وَعَلَّ , لَا يُرَادُ وُقُوعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ , وَأَنَّ أَصْلَهُ الدُّعَاءُ , لَكِنَّهُمْ قَدْ أَخْرَجُوهُ عَنْ أَصْلِهِ إلَى التَّأْكِيدِ زِيَادَةً , وَإِلَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِحْسَانِ تَارَةً , وَإِلَى الْإِنْكَارِ وَالتَّعْظِيمِ أُخْرَى . انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . فَعَلَى الْعَاقِلِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَنْ يَرْغَبَ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَمَدُ وَالْعَمُودُ , وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَقْصُودُ . وَيُحْكَى أَنَّ نُوحَ بْنَ مَرْيَمَ قَاضِي غِذَاء أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ , فَشَاوَرَ جَارًا لَهُ مَجُوسِيًّا , فَقَالَ: النَّاسُ يَسْتَفْتُونَك وَأَنْتَ تَسْتَفْتِينِي , قَالَ لَا بُدَّ أَنْ تُشِيرَ عَلَيَّ . فَقَالَ إنَّ رَئِيسَنَا كِسْرَى كَانَ يَخْتَارُ الْمَالَ , وَرَئِيسَ النَّصَارَى قَيْصَرَ كَانَ يَخْتَارُ الْجَمَالَ , وَجَاهِلِيَّةَ الْعَرَبِ كَانَتْ تَخْتَارُ الْحَسَبَ وَالنَّسَبَ , وَرَئِيسَكُمْ مُحَمَّدًا كَانَ يَخْتَارُ الدِّينَ , فَانْظُرْ أَنْتَ بِأَيِّهِمْ تَقْتَدِي . ثُمَّ وَصَفَ النَّاظِمُ ذَاتَ الدِّينِ الْمَرْغُوبَ فِي نِكَاحِهَا بِأَوْصَافٍ زَائِدَةٍ عَلَى كَوْنِهَا دَيِّنَةً فَقَالَ (الْوَدُودَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ , وَهُوَ مِنْ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَّكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ ; لِأَنَّهُ فَعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ وَكَذَا وَلُودٌ كَصَبُورٍ بِمَعْنَى صَابِرٍ أَيْ وَادَّةٌ لِزَوْجِهَا بِمَعْنَى أَنَّهَا تُحِبُّهُ (الْوَلُودُ الْأَصْلِ) أَيْ الَّتِي مِنْ أَصْلِ ذَوَاتِ أَوْلَادٍ يَعْنِي أُمَّهَاتِهَا ذَوَاتِ أَوْلَادٍ , لِمَا رَوَى أَبُو غِذَاء غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ " جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنِّي أَصَبْت امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَمَنْصِبٍ وَمَالٍ إلَّا أَنَّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ فَنَهَاهُ . ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ , ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ نِسَاءَهَا كَثِيرَاتُ الْأَوْلَادِ , لِأَنَّ فَعُولٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ (ذَاتَ) أَيْ صَاحِبَةَ (التَّعَبُّدِ) أَيْ الْعِبَادَةِ الْكَثِيرَةِ مِنْ الْقِيَامِ وَالصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَالتَّأَلُّهِ , فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْخَلْقِ الْعِبَادَةُ بِشَهَادَةِ قوله تعالى حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إذًا بِوُلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةَ فَاقْصِدْ (حَسِيبَةَ أَصْلٍ) الْحَسَبُ مَا تَعُدُّهُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِك , أَوْ الْكَرَمُ أَوْ الشَّرَفُ فِي الْفِعْلِ أَوْ الْفِعَالُ الصَّالِحَةُ , أَوْ الشَّرَفُ الثَّابِتُ فِي الْآبَاءِ . وَبَعْضُهُمْ قَالَ: الْحَسَبُ وَالْكَرَمُ قَدْ يَكُونَانِ لِمَنْ لَا آبَاءَ لَهُ شُرَفَاءُ , وَالشَّرَفُ وَالْمَجْدُ لَا يَكُونَانِ إلَّا بِهِمْ . وَفِي الْمَطَالِعِ: حَسَبُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ الْكِرَامُ الَّذِينَ تُعَدُّ مَنَاقِبُهُمْ وَتُحْسَبُ عِنْدَ الْمَفَاخِرِ , انْتَهَى . وَفِي الْمُطْلِعِ: الْحَسِيبَةُ هِيَ النَّسِيبَةُ . وَأَصْلُ الْحَسَبِ الشَّرَفُ بِالْآبَاءِ وَمَا يَعُدُّهُ الْإِنْسَانُ مِنْ مَفَاخِرِهِمْ , يَعْنِي أَنَّهَا تَكُونُ حَسِيبَةً مِنْ جِهَةِ أَصْلِهَا . فَإِنْ قُلْت: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحَسِيبَةَ كَذَلِكَ فَمَا فَائِدَةُ زِيَادَةِ أَصْلٍ؟ . فَالْجَوَابُ أَنَّهَا حَشْوٌ لِلْوَزْنِ أَوْ لِزِيَادَةِ التَّنْصِيصِ , فَإِنَّ ذَلِكَ طَافِحٌ فِي الْكَلَامِ الْفَصِيحِ . وَيُحْتَمَلُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إنَّمَا زَادَهَا احْتِرَازًا مِنْ تَوَهُّمِ إرَادَةِ الْمَالِ وَالدِّينِ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْحَسَبُ مَا تَعُدُّهُ مِنْ مَفَاخِرِ آبَائِك أَوْ الْمَالِ أَوْ الدِّينِ , فَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ حَسِيبَةٌ مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ , وَأَمَّا الدِّينُ فَقَدْ ذَكَرَهُ سَابِقًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ثُمَّ زَادَ ذَلِكَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ مُتَوَلِّدَةٌ وَنَاشِئَةٌ (مِنْ) قَوْمٍ (كِرَامٍ) غَيْرِ لِئَامٍ . قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْكَرَمُ مُحَرَّكَةٌ ضِدَّ اللُّؤْمِ , يُقَالُ كَرُمَ بِضَمِّ الرَّاءِ كَرَامَةً وَكَرَمًا وَكَرِمَةٍ مُحَرَّكَتَيْنِ فَهُوَ كَرِيمٌ وَكَرِيمَةٌ وَالْجَمْعُ كُرَمَاءُ وَكِرَامٌ وَكَرَائِمُ انْتَهَى . وَفِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْكَرِيمُ . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: هُوَ غِذَاء الْمُعْطِي الَّذِي لَا يَنْفُذُ عَطَاؤُهُ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ . قَالَ وَالْكَرِيمُ الْجَامِعُ لِأَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ , وَمِنْهُ حَدِيثُ " إنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ " لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ لَهُ شَرَفُ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْجَمَالِ وَالْعِفَّةِ وَكَرَمِ الْأَخْلَاقِ وَالْعَدْلِ وَرِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ , فَهُوَ نَبِيُّ ابْنُ نَبِيِّ ابْنِ نَبِيِّ ابْنِ نَبِيِّ رَابِعُ أَرْبَعَةٍ فِي النُّبُوَّةِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ فِي كِتَابِهِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْكَلَامِ عَلَى السَّخَاءِ وَالشُّحِّ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ أَنَّ الشُّحَّ هُوَ شِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْإِحْفَاءُ فِي طَلَبِهِ , وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تَحْصِيلِهِ , وَجَشَعُ النَّفْسِ عَلَيْهِ . وَالْبُخْلُ مَنْعُ إنْفَاقِهِ . بَعْدَ حُصُولِهِ وَحُبِّهِ وَإِمْسَاكِهِ , فَهُوَ شَحِيحٌ قَبْلَ حُصُولِهِ , بَخِيلٌ بَعْدَ حُصُولِهِ . فَالْبُخْلُ ثَمَرَةُ الشُّحِّ , وَالشُّحُّ يَدْعُو إلَى الْبُخْلِ , وَالشُّحُّ كَامِنٌ فِي النَّفْسِ , فَمَنْ بَخِلَ فَقَدْ أَطَاعَ شُحَّهُ , وَمَنْ لَمْ يَبْخَلْ فَقَدْ عَصَى شُحَّهُ وَوُقِيَ شَرَّهُ وَذَلِكَ هُوَ الْمُفْلِحُ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ خَلْقِهِ بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ . فَجُودُ الرَّجُلِ يُحَبِّبُهُ إلَى أَضْدَادِهِ , وَبُخْلُهُ يُبَغِّضُهُ إلَى أَوْلَادِهِ , وَأَنْشَدَ: وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ قَالَ: وَحَدُّ السَّخَاءِ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ , وَأَنْ يُوصِلَ ذَلِكَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ . وَلَيْسَ كَمَا قَالَ بَعْضُ مَنْ نَقَصَ عِلْمُهُ: حَدُّ الْجُودِ بَذْلُ الْمَوْجُودِ , وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ لَارْتَفَعَ اسْمُ السَّرَفِ وَالتَّبْذِيرِ , وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ بِذَمِّهِمَا وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُمَا . قَالَ: وَإِذَا كَانَ السَّخَاءُ مَحْمُودًا فَمَنْ وَقَفَ عَلَى حَدِّهِ سُمِّيَ كَرِيمًا وَكَانَ لِلْحَمْدِ مُسْتَوْجِبًا , وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ كَانَ بَخِيلًا وَلِلذَّمِّ مُسْتَوْجِبًا . قَالَ وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ غِذَاء - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ أَتَدْرِي لَمْ اتَّخَذْتُك خَلِيلًا؟ قَالَ لَا , قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت الْعَطَاءَ أَحَبُّ إلَيْك مِنْ الْأَخْذِ . قَالَ وَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ , فَإِنَّهُ يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ , وَيُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ , وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ , وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ , وَأَحَبُّ الْخَلْقِ إلَيْهِ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَاتِهِ , فَإِنَّهُ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرِيمَ مِنْ عِبَادِهِ , وَعَالِمٌ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ , وَقَادِرٌ يُحِبُّ الشُّجْعَانَ , وَجَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ , انْتَهَى . ثُمَّ قَالَ رَحِمُهُ الْمَلِكُ غِذَاء:
وَوَاحِدَةٌ أَدْنَى مِنْ الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ وَإِنْ شِئْت فَابْلُغْ أَرْبَعًا لَا تُزَيَّدْ (وَ) زَوْجَةٌ (وَاحِدَةٌ أَدْنَى) أَيْ أَقْرَبُ (مِنْ الْعَدْلِ) الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجَوْرِ وَالْمَيْلِ بِشَهَادَةِ قوله تعالى وَمِنْ الْأَوَّلِ: الْقَنَاعَةُ كَنْزٌ لَا يَفْنَى . قَالَ فِي النِّهَايَةِ: لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ مِنْهَا لَا يَنْقَطِعُ كُلَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا قَنَعَ بِمَا دُونَهُ وَرَضِيَ . وَفِي الْحَدِيثِ " عَزَّ مَنْ قَنِعَ وَذَلَّ مَنْ طَمِعَ " لِأَنَّ الْقَانِعَ لَا يُذِلُّهُ الطَّلَبُ فَلَا يَزَالُ عَزِيزًا (وَإِنْ شِئْت) الزِّيَادَةَ عَنْ الْوَاحِدَةِ (فَابْلُغْ) فِي زِيَادَتِك (أَرْبَعًا) مِنْ النِّسَاءِ الْحَرَائِرِ إنْ كُنْت حُرًّا , فَإِنَّ ذَلِكَ نِهَايَةَ جَمْعِ الْحُرِّ (لَا تُزَيَّدْ) لَا نَاهِيَةٌ وَتُزَيَّدْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ مَجْزُومٍ بِهَا وَكُسِرَ لِلْقَافِيَةِ . فَلَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى بِمَا شَاءَ مِنْ الْإِمَاءِ وَلَوْ كِتَابِيَّاتٍ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ . وَكَانَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَيِّ عَدَدٍ شَاءَ وَنُسِخَ تَحْرِيمُ الْمَنْعِ . وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْمَعَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ , وَلَيْسَ لَهُ التَّسَرِّي وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ . وَلِمَنْ نِصْفُهُ حُرٌّ فَأَكْثَرُ نِكَاحٍ ثَلَاثَةٌ نَصًّا . قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى وَاحِدَةٍ إنْ حَصَلَ بِهَا الْإِعْفَافُ , وَكُلُّ هَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى يُقَالُ عَالَ الْمِيزَانُ إذَا مَالَ , وَعَالَ الْحَكَمُ إذَا جَارَ , وَعَوْلُ الْفَرِيضَةِ الْمَيْلُ عَنْ حَدِّ السِّهَامِ الْمُسَمَّاةِ . وَفُسِّرَ بِأَنْ لَا يَكْثُرَ عِيَالُكُمْ , وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ كَثْرَةَ النِّسَاءِ مَظِنَّةُ الْمَيْلِ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ وَالْجَوْرُ فِي الْقَسْمِ بَيْنُهُنَّ وَعَدَمُ السَّلَامَةِ . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ " وَرَوَاهُ أَبُو غِذَاء وَلَفْظُهُ " مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ " . غِذَاء وَلَفْظُهُ " مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ " وَرَوَاهُ ابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ بِنَحْوِ رِوَايَةِ غِذَاء هَذِهِ إلَّا أَنَّهُمَا قَالَا " جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ " وَأَخْرَجَ أَبُو غِذَاء وَالتِّرْمِذِيُّ غِذَاء وَابْنُ غِذَاء وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ رُوِيَ مُرْسَلًا وَهُوَ أَصَحُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ فَيَعْدِلُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي الْقَلْبَ " . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غِذَاء رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ , الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا " وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ . " تَتِمَّةٌ " كَانَ النَّاسُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَهُمْ شَأْنٌ غَيْرُ شَأْنِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ , فَقَدْ كَانَ غِذَاء عليه السلام مِائَةُ امْرَأَةٍ , وَلِوَلَدِهِ سُلَيْمَانَ عليه السلام أَلْفُ امْرَأَةٍ , وَكَانَ لِنَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عِدَّةٌ مِنْ النِّسَاءِ , وَمَاتَ عَنْ تِسْعَةٍ وَسُرِّيَّتَيْنِ , وَكَانَ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ وَفَاةِ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ , وَبَضْعَةِ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ أَرْبَعُ حَرَائِرَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً , وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ الْحَسَنُ بِنَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ امْرَأَةٍ , فَكَانُوا قَدْ أُيِّدُوا بِالْقُوَّةِ وَهُنَّ بِالصَّبْرِ بِخِلَافِ عَصْرِنَا لِكُلِّ زَمَانٍ دَوْلَةٌ وَرِجَالٌ .
|