الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب **
" الثَّالِثُ " قَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ وَهُوَ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ أَنْ يُوَسِّعَ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ وَالرَّقَاعَةِ , وَالْحَمَاقَةِ وَالْخَلَاعَةِ , وَيُضَيِّقَهَا عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ , وَالْأَدَبِ وَالْفَهْمِ قَالَ الْحُكَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا يَعْنِي أَنَّ الْفُضَلَاءَ يُقَلَّلُ لَهُمْ , وَالْجُهَلَاءَ يُفَاضُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الْفُضَلَاءُ أَنَّ الْفَضْلَ يَرْزُقُهُمْ , وَإِنَّمَا يَرْزُقُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَقُولُ: النُّفُوسُ إمَّا عُلْوِيَّةٌ مَلَكِيَّةٌ , هَمُّهَا طَلَبُ مَعَالِي الْأُمُورِ وَنَفَائِسِهَا وَمَا يُلْحِقُهَا بِعَالَمِهَا الْعُلْوِيِّ , وَإِمَّا سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ تُرَابِيَّةٌ , غَايَةُ مطلبهَا وَمَرْكَزِهَا الْأُمُورُ التُّرَابِيَّةُ الْأَرْضِيَّةُ , وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْأُمُورَ الدُّنْيَوِيَّةَ دَنِيَّةٌ سُفْلِيَّةٌ أَرْضِيَّةٌ , فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ النُّفُوسِ السُّفْلِيَّةِ تَمَامُ الْمُنَاسَبَةِ , وَشَبَهُ الشَّيْءِ يَنْجَذِبُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَزِيدِ كُلْفَةٍ , بِخِلَافِ النُّفُوسِ الْعُلْوِيَّةِ , فَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الدُّنْيَا تَمَامُ الْمُبَايَنَةِ , وَإِذَا فُرِضَ بَعْضُ اتِّفَاقِ مُخَالَطَةٍ فَهِيَ إلَى التَّنَافُرِ وَالتَّبَايُنِ أَقْرَبُ . وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي: أَوَدُّ مِنْ الْأَيَّامِ مَا لَا تَوَدُّهُ وَأَشْكُو إلَيْهَا بَيْنَنَا وَهِيَ جُنْدُهُ يُبَاعِدْنَ حُبًّا يَجْتَمِعْنَ وَوَصْلُهُ فَكَيْفَ بِحُبٍّ يَجْتَمِعْنَ وَصَدُّهُ أَبِي خُلُقُ الدُّنْيَا حَبِيبًا تُدِيمُهُ فَمَا طَلَبِي مِنْهَا حَبِيبًا تَرُدُّهُ وَأَسْرَعُ مَفْعُولٍ فَعَلَتْ تَغَيُّرًا تَكَلُّفُ شَيْءٍ فِي طِبَاعِك ضِدُّهُ وَقَالَ أَرِسْطُو غِذَاء: الْأَشْكَالُ لَاحِقَةٌ بِأَشْكَالِهَا , كَمَا أَنَّ الْأَضْدَادَ مُبَايِنَةٌ لِأَضْدَادِهَا . وَقَالَ الْمُتَنَبِّي: وَشَبَهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إلَيْهِ وَأَشْبَهَنَا بِدُنْيَانَا الطَّغَامُ وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: رَأَيْت جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَشْغَلُهُمْ طَلَبُهُمْ لِلْعِلْمِ فِي زَمَنِ الصِّبَا عَنْ الْمَعَاشِ , فَيَحْتَاجُونَ إلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ , فَلَا يَصِلُهُمْ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ , وَلَا مِنْ صِلَاتِ الْإِخْوَانِ مَا يَكْفِي , فَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّعَرُّضِ بِالْإِذْلَالِ , فَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ إلَّا سَبَبَيْنِ , أَحَدُهُمَا: قَمْعُ إعْجَابِهِمْ بِهَذَا الْإِذْلَالِ , وَالثَّانِي: نَفْعُ أُولَئِكَ بِثَوَابِهِمْ . ثُمَّ أَمْعَنْت الْفِكْرَ فتلمحت نُكْتَةً لَطِيفَةً , وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ الْأَبِيَّةَ إذَا رَأَتْ حَالَ الدُّنْيَا كَذَلِكَ لَمْ تُسَاكِنْهَا بِالْقَلْبِ , وَنَبَتْ عَنْهَا بِالْعَزْمِ , وَرَأَتْ أَقْرَبَ الْأَشْيَاءِ شَبَهًا بِهَا مَزْبَلَةً عَلَيْهَا الْكِلَابُ , وَإِنَّمَا تُؤْتَى لِضَرُورَةٍ , فَإِذَا نَزَلَ الْمَوْتُ بِالرِّحْلَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْقَلْبِ بِهَا مُتَعَلِّقٌ يَتَمَكَّنُ فَتَهُونُ حِينَئِذٍ . وَقَدْ أَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ نَثْرًا وَنَظْمًا , وَيُسْنِدُونَ ذَلِكَ لِلزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالدُّنْيَا عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ وَإِلَّا فَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ لَا غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ , فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الْوَرْدِيِّ فِي لَامِيَّتِهِ: قَاطِعْ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا تُخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مَنْ غِذَاء عِيشَةُ الزَّاهِدِ فِي تَحْصِيلِهَا عِيشَةُ الْجَاهِلِ بَلْ هَذَا أَذَلّ كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ غِذَاء وَعَلِيلٍ مَاتَ مِنْهَا غِذَاء كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الْأَمَلِ وَقَوْلُ غِذَاء فِي لَامِيَّةِ الْعَجَمِ: أَهَبْت بِالْحَظِّ لَوْ نَادَيْت مُسْتَمِعَا وَالْحَظُّ عَنِّي بِالْجُهَّالِ فِي شُغُلِ لَعَلَّهُ إنْ بَدَا فَضْلِي وَنَقْصُهُمْ لَعَيْنِهِ نَامَ عَنْهُمْ أَوْ تَنَبَّهَ لِي قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: قَالَ الْحَظُّ لِلْعَقْلِ: إنْ شِئْت سِرْ أَوْ أَقِمْ فَإِنِّي مُسْتَغْنٍ عَنْك . وَقَالَ الْقَاضِي الْفَاضِلُ: مَا ضَرَّ جَهْلُ الْجَاهِلِينَ وَلَا انْتَفَعْت أَنَا بِحِذْقِي وَزِيَادَتِي فِي الْحِذْقِ فَهِيَ زِيَادَتِي فِي نَقْصِ رِزْقِي وَقَالَ شَمْسُ الدِّينِ الْحَكِيمُ بْنُ دَانْيَالَ: قَدْ عَقَلْنَا وَالْعَقْلُ أَيُّ وَثَاقِ وَصَبَرْنَا وَالصَّبْرُ مُرُّ الْمَذَاقِ كُلُّ مَنْ كَانَ فَاضِلًا كَانَ مِثْلِي فَاضِلًا عِنْدَ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدْتنِي بِنُجُومِ أَفْلَاكِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الْغِنَى ضِدَّانِ مُفْتَرَقَانِ أَيَّ تَفَرُّقِ فَإِذَا سَمِعْت بِأَنَّ مَحْرُومًا أَتَى مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَغَاصَ فَصَدِّقْ أَوْ أَنَّ مَحْظُوظًا غَدَا فِي كَفِّهِ عُودٌ فَأَوْرَقَ فِي يَدَيْهِ فَحَقِّقْ وَقَالَ غَيْرُهُ: وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ لَكِنْ حُظُوظٌ بِأَرْزَاقٍ وَأَقْسَامِ كَالصَّيْدِ يُحْرَمُهُ الرَّامِي الْمُجِيدُ وَقَدْ يَرْمِي فَيُرْزَقُهُ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي وَقَالَ خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ , وَنَادِرَةُ الْمُدَقِّقِينَ , الْعَلَّامَةُ الْأَوْحَدُ , وَالْفَهَّامَةُ الْأَمْجَدُ , الْوَحِيدُ الْأَلْمَعِيُّ , وَالْفَرِيدُ اللَّوْذَعِيُّ , الْمُحَقِّقُ عَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ أَبِي الْمَوَاهِبِ , الْمُنْتَقِلُ إلَى سَعَةِ رَحْمَةِ الْوَاهِبِ , لَيْلَةَ الْأَحَدِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ جُمَادَى الثَّانِيَةِ فِي سَنَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ , وَقَدْ أَخَذْنَا عَنْ عِدَّةِ شُيُوخٍ أَخَذُوا عَنْهُ , وَقَدْ شَارَكْنَاهُ فِي أَكْثَرِ مَشَايِخِهِ رحمه الله تعالى وَرَضِيَ عَنْهُ آمِينَ , مُشَطِّرًا لِلْأَبْيَاتِ الْمَنْسُوبَةِ لِسَيِّدِنَا جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رضي الله عنه وَعَنْ آبَائِهِ الْأَطْهَرِينَ , وَهِيَ: عَتَبْت عَلَى الدُّنْيَا وَقُلْت إلَى مَتَى تُسِيئِينَ صُنْعًا مَعَ ذَوِي الشَّرَفِ الْجَلِيّ أَفَاقِدَةُ الْإِنْصَافِ حَتَّى عَلَيْهِمْ تَجُودِينَ بِالْهَمِّ الَّذِي لَيْسَ يَنْجَلِي فَكُلُّ شَرِيفٍ مِنْ سُلَالَةِ هَاشِمٍ بِسَيْءِ حَظٍّ فِي مَذَاهِبِهِ اُبْتُلِيَ وَمَعَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْعِزِّ وَالْعُلَا يَكُونُ عَلَيْهِ الرِّزْقُ غَيْرَ مُسَهَّلِ فَقَالَتْ نَعَمْ يَا بْنَ الْبَتُولِ لِأَنَّنِي خَسِيسَةُ قَدْرٍ عَنْ عُلَاكُمْ بِمَعْزِلِ وَأَمَّا إسَاءَاتِي فَذَلِكَ أَنَّنِي حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيّ . . وَجْهَهُ غِذَاء رضي الله عنه قُلْت: وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيّ , إلَى مَا رَوَيْنَاهُ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إلَى الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ الصُّوفِيُّ , قَالَ غِذَاء أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي صَادِقٍ الْحُرِّيُّ غِذَاء أُبُوّ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ غِذَاء الشِّيرَازِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَهْدٍ حَدَّثَنَا فَهْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ غِذَاء حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا ابْنُ دِينَارٍ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ غِذَاء حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَمْرٍو غِذَاء عَنْ غِذَاء عِنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رضي الله عنه لِضِرَارِ بْنِ غِذَاء: صِفْ لِي عَلِيًّا . فَقَالَ غِذَاء تُعْفِنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , قَالَ بَلْ تَصِفْهُ لِي , قَالَ غِذَاء تُعْفِنِي , قَالَ لَا أُعْفِيك . قَالَ أَمَّا إذْ لَا بُدَّ فَإِنَّهُ وَاَللَّهِ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى , شَدِيدَ الْقُوَى , يَقُولُ فَصْلًا , وَيَحْكُمُ عَدْلًا , وَيَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ مِنْ جَوَانِبِهِ , وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ , يَسْتَوْحِشُ مِنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا , وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ , كَانَ وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ , طَوِيلَ الْفِكْرَةِ , يُقَلِّبُ كَفَّهُ , وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ , يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشِنَ , وَمِنْ الطَّعَامِ مَا جَشِبَ - أَيْ بِالْجِيمِ وَالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ عَلَى وَزْنِ نَصَرَ وَسَمِعَ أَيْ غِذَاء أَوْ بِلَا أُدُمٍ كَمَا فِي الْقَامُوسِ انْتَهَى - كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ , وَيَبْتَدِينَا إذَا أَتَيْنَاهُ , وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ , وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً , وَلَا نَبْتَدِيهِ لِعَظَمَتِهِ , فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ , يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ , وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ لَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ , وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ عَدْلِهِ , فَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْته فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ , وَقَدْ أَرْخَى اللَّيْلُ سُجُوفَهُ , وَغَارَتْ نُجُومُهُ , وَقَدْ مَثُلَ فِي مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ , يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ يَعْنِي الْقَرِيصِ وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ , فَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا أَبِي تَعَرَّضْت , أَمْ لِي تَشَوَّقْت , هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ , غُرِّي غَيْرِي , قَدْ غِذَاء ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيك , فَعُمُرُك قَصِيرٌ , وَعَيْشُك حَقِيرٌ , وَخَطَرُك كَبِيرٌ , آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ , وَوَحْشَةِ الطَّرِيقِ . قَالَ فَذَرِفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه فَمَا يَمْلِكُهَا وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ , وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ , ثُمَّ قَالَ مُعَاوِيَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ , فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا فِي حِجْرهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا , وَلَا تَسْكُنُ حَسْرَتُهَا . وَمَرَّ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي الله عنه وَصَفَ الدُّنْيَا فَقَالَ: دَارٌ مَنْ صَحَّ فِيهَا أَمِنَ , وَمَنْ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ , وَمَنْ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ , فِي حَلَالِهَا الْحِسَابُ , وَفِي حَرَامِهَا النَّارُ وَفِي لَفْظٍ الْعَذَابُ . قَالَ فِي التَّمْيِيزِ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا غِذَاء فِي الشُّعَبِ مَوْقُوفًا وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ انْتَهَى . وَقَدْ أَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ مَرْفُوعًا وَقَالَ مَخْرَجُهُ لَمْ أَجِدْهُ . وَقَالَ السَّخَاوِيُّ: وَفِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما رَفَعَهُ: يَا بْنَ آدَمَ مَا تَصْنَعُ بِالدُّنْيَا حَلَالُهَا حِسَابٌ , وَحَرَامُهَا عَذَابٌ , وَلَفْظُ الشُّعَبِ: وَحَرَامُهَا النَّارُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه . وَمِمَّا يُرْوَى عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: يَا دُنْيَا غُرِّي غَيْرِي قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا وَأَنْشَدَ: دُنْيَا تُخَادِعُنِي كَأَنِّي لَسْت أَعْرِفُ مَالَهَا مَدَّتْ إلَيَّ يَمِينَهَا فَرَدَدْتهَا وَشِمَالَهَا ذَمَّ الْإِلَهُ حَرَامَهَا وَأَنَا اجْتَنَبْت حَلَالَهَا وَعَرَفْتهَا غَدَّارَةً فَتَرَكْت جُمْلَتَهَا لَهَا وَقَدْ ذَكَرْت لَك بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا فِي كِتَابِي الْقَوْلِ الْعَلِيّ لِشَرْحِ أَثَرِ الْإِمَامِ عَلِيٍّ رضي الله عنه , فَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ بِقَوْلِهِ: حَقَدْت عَلَيْكُمْ حِينَ طَلَّقَنِي عَلِيٌّ . وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِ هَذَا وَأَحْسَنَ: عَتَبْت عَلَى الدُّنْيَا لِتَقْدِيمِ جَاهِلٍ وَتَأْخِيرِ ذِي فَضْلٍ فَقَالَتْ لَك الْعُذْرَا بَنُو الْجَهْلِ أَبْنَائِي لِهَذَا رَفَعَتْهُمْ وَأَمَّا ذَوُو الْأَلْبَابِ مِنْ ضَرَّتِي الْأُخْرَى وَقَالَ السَّيِّدُ عَبْدُ الرَّحِيمِ الْعَبَّاسُ الْإِسْطَنْبُولِيُّ رحمه الله تعالى: أَرَى الدَّهْرَ يُسْعِفُ جُهَّالَهُ وَأَوْفَرُ حَظٍّ بِهِ الْجَاهِلُ وَأَنْظُرُ حَظِّي بِهِ نَاقِصًا أَيَحْسَبُنِي أَنَّنِي فَاضِلُ وَقَالَ أَبُو إسْحَاقَ الصَّابِي: قَدْ كُنْت أُعْجَبُ مِنْ مَالِي وَكَثْرَتِهِ وَكَيْفَ تَغْفُلُ عَنِّي حِرْفَةُ الْأَدَبِ حَتَّى انْثَنَتْ وَهِيَ كَالْغَضْبَى تُلَاحِظُنِي شَزْرًا وَلَمْ تُبْقِ لِي شَيْئًا مِنْ النُّشَبِ وَاسْتَيْقَنْت أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى خَطَأٍ فَاسْتَدْرَكَتْهُ وَأَفْضَتْ بِي إلَى الْحَرْبِ الضَّبُّ وَالنُّونُ قَدْ يُرْجَى اجْتِمَاعُهُمَا وَلَيْسَ يُرْجَى اجْتِمَاعُ الْمَالِ وَالْأَدَبِ وَقَالَ غِذَاء يَحْيَى بْنُ عُمَرَ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: كَفَى حَزَنًا أَنَّ الْغِنَى مُتَعَذَّرٌ عَلَيَّ وَأَنِّي بِالْمَكَارِمِ مُغْرَمُ غِذَاء مَا قَصَّرْت فِي طَلَبِ الْعُلَا وَلَكِنَّنِي أَسْعَى إلَيْهَا وَأُحْرَمُ وَمَا النَّاسُ إلَّا مُخَصَّبٌ بِثَرَائِهِ وَآخَرُ ذُو جَدْبٍ مِنْ الْمَالِ مُعْدَمُ كَمَا أَنَّ هَذَا شَاعِرٌ ذُو خَطَابَةٍ وَهَذَا بَلِيدٌ مُقْفَلُ الْفَهْمِ مُفْحَمُ وَإِنْ جُمِعَا فِي مَحْفِلٍ وَتَنَسَّبَا إلَى غِذَاء صَدْقٍ فِعْلُهُ يَتَرَنَّمُ . وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ غِذَاء غِذَاء: مَتَى يُدْرِكُ النِّحْرِيرُ بَخْتًا بِعَقْلِهِ وَيُحْرِزُ حَظًّا بِالْبَيَانِ وَبِالنُّطْقِ وَيَحْتَالُ لِلْمَقْدُورِ حَتَّى يُزِيلَهُ بِحِيلَةِ ذِي الْبَخْتِ الْمُكَمَّلِ بِالْحَلَقِ أَبَتْ سُنَّةُ الْأَقْدَارِ غَيْرَ الَّذِي جَرَى بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْخُلُقِ وَالْخَلْقِ فَلَا تَخْدَعْنِي بِالْأَمَانِي فَإِنَّهَا تَقُودُ عَزِيزَ الْقَوْمِ حُرًّا إلَى الرِّقِّ وَكُونِي مَعَ الْحَقِّ الْمُصَرَّحِ وَاصْبِرِي كَصَبْرِ الْمُسَجَّى فِي السِّيَاقِ عَلَى الْحَقِّ فَمَا صَبْرُ الْمَكْرُوبِ وَهُوَ مُخَيَّرُ وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ وَفِي مَرْثِيَةِ غِذَاء لِوَلَدِهِ رحمهما الله الَّتِي أَوَّلُهَا: حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِّيَّةِ جَارِي مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ غِذَاء يُرَى الْإِنْسَانُ فِيهَا مُخَبِّرًا حَتَّى يَرَى خَبَرًا مِنْ الْأَخْبَارِ جُبِلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا صَفْوًا مِنْ الْأَقْذَاءِ وَالْأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ إلَى أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ الزَّمَانُ وَإِنْ حَرَصْت مُسَالِمًا خُلُقُ الزَّمَانِ عَدَاوَةُ الْأَحْرَارِ وَأَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الشَّهَابُ غِذَاء فِي مَدْرَسَتِهِ غِذَاء فِي مَحْرُوسَةِ الشَّامِ سَنَةَ ثَمَانِيَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ قَالَ: رَأَيْت فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنِّي بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُضَلَاءِ وَكَأَنِّي أَنْشُدُ بَيْتًا مِنْ الشِّعْرِ وَهُوَ: قَدْ قَالَ جَدِّي عَنْ فَهْمٍ وَتَجْرِبَةٍ مَا آفَةُ الْجَدِّ إلَّا حِرْفَةَ الْأَدَبِ فَأَخَذْتُهُ وَكَتَبْت فِي الْمَجْلِسِ: لَمَّا رَقِيت الْعُلَا وَظَفِرْت بِالْإِرْثِ مِنْ الْعُلُومِ وَفُقْتَ النَّاسَ بِالْأَدَبِ نَعَى الزَّمَانُ لِنَفْسِي حَظَّهَا سَفَهًا مِنْ الْمَكَارِمِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ صَحْبِ فَذُو الصَّدَاقَةِ صَارَ الْآنَ يَكْرَهُنِي لِجَهْلِهِ بِذَوِي الْأَلْبَابِ وَالرُّتَبِ وَغَاضَ رِزْقِي وَعَادَانِي الزَّمَانُ وَلَمْ يَنْظُرْ لِمَا بِي مِنْ الْعُلْيَا وَلَا حَسَبِي وَهَذِهِ سُنَّةُ الرَّحْمَنِ فَاصْغَ لَهَا فَمَا لِذِي فَطِنَةٍ فِي النَّاسِ مِنْ نَشَبِ وَشَاهِدِي فِيهِ مَا أَمْلَى الشِّهَابُ عَلَى طَيْفٍ أَلَمَّ بِهِ فِي حِنْدِسِ الشُّهُبِ قَدْ قَالَ جَدِّي عَنْ فَهْمٍ وَتَجْرِبَةٍ مَا آفَةُ الْجَدِّ إلَّا حِرْفَةَ الْأَدَبِ وَاعْلَمْ حَمَاك اللَّهُ مِنْ الزَّنْدَقَةِ , وَطَهَّرَ لِسَانَك مِنْ اللَّقْلَقَةِ , أَنَّ الزَّمَانَ لَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ , وَلَا يَخْفِضُ وَلَا يَرْفَعُ , وَلَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ . وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ ذَلِكَ كُلَّهُ رَبُّ الزَّمَانِ , الَّذِي مَا شَاءَ كَانَ , وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَلَمَّا أَوْغَلَ ابْنُ غِذَاء الزِّنْدِيقُ الْمُتَعَدِّي فِي النَّظَرِ فِي الْعُلُومِ الْفَلْسَفِيَّةِ , وَلَمْ يُنَوِّرْ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ , قَالَ فِي مَعْرِضِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أَعْيَتْ مَذَاهِبُهُ وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوقًا هَذَا الَّذِي تَرَكَ الْأَوْهَامَ حَائِرَةً وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيرَ زِنْدِيقًا فَعَارَضَهُ أَهْلُ الِاهْتِدَاءِ وَنُجُومُ الِاقْتِدَاءِ فَقَالُوا: كَمْ مِنْ أَدِيبٍ فَهِمٍ قَلْبُهُ مُسْتَكْمِلُ الْعَقْلَ مُقِلٍّ عَدِيمِ وَمِنْ جَهُولٍ مُكْثِرٍ مَالَهُ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَقَالَ آخَرُ: كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ لَا زَالَ ذَا عُسْرِ وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ لَازَالَ فِي يُسْرِ تَحَيَّرَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقُلْت لَهُمْ هَذَا الَّذِي أَوْجَبَ الْإِيمَانَ بِالْقَدْرِ وَقَالَ آخَرُ: كَمْ مِنْ قَوِيٍّ قَوِيٍّ فِي تَصَرُّفِهِ مُهَذَّبُ الرَّأْيِ عَنْهُ الرِّزْقُ يَنْحَرِفُ وَكَمْ ضَعِيفٍ ضَعِيفٍ فِي تَقَلُّبِهِ كَأَنَّهُ مِنْ خَلِيجِ الْبَحْرِ يَغْتَرِفُ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَهُ فِي الْخَلْقِ سِرٌّ خَفِيٌّ لَيْسَ يَنْكَشِفُ . وَقَالَ غِذَاء: تَنْقِيصُ أَهْلِ الْفَضْلِ دُونَ الْوَرَى مَصَائِبُ الدُّنْيَا وَآفَاتُهَا كَالطَّيْرِ لَا يُحْبَسُ مِنْ بَيْنِهَا إلَّا الَّتِي تَطْرَبُ أَصْوَاتُهَا وَلَهُ أَيْضًا: لَوْ كُنْت أَجْهَلُ مَا عَلِمْت لَسَرَّنِي جَهْلِي كَمَا قَدْ سَاءَنِي مَا أَعْلَمُ كَالصَّقْرِ يَرْتَعُ فِي الرِّيَاضِ وَإِنَّمَا حُبِسَ الْهَزَارُ لِأَنَّهُ يَتَرَنَّمُ وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ فِي نَقْلِ كَلَامِ أَهْلِ الْبَلَاغَةِ وَالْآدَابِ , مِنْ الْحِكَمِ الَّتِي أَوْدَعُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ , وَيَكْفِيك إنْ كُنْت ذَا أَدَبٍ , نَفْيُ غِذَاء الْعَجَبَ لِهَذَا السَّبَبِ , فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُسْتَقِرًّا عِنْدَ ذَوِي الْفُهُومِ وَالْحَقَائِقِ وَالْعُلُومِ , أَنَّ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالْحُطَامِ الْجَهُولُ الْغَشُومُ , وَأَقَلَّ النَّاسِ حَظًّا مِنْهُ ذُو الشَّرَفِ الْبَاذِخِ , وَالْقَدَمِ الرَّاسِخِ , فِي إدْرَاكِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ , جَعَلَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَجْهُولٍ عِنْدَ النَّاسِ , وَلَا مُتَعَجَّبٌ مِنْهُ بَلْ مَعْلُومٌ . فَقَالَ: مَا كُنْت غِذَاء أَنْ يَمْتَدَّ بِي زَمَنِي حَتَّى أَرَى دَوْلَةَ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ تَقَدَّمَتْنِي أُنَاسٌ كَانَ شَوْطُهُمْ وَرَاءَ خَطْوِي إذْ أَمْشِي عَلَى مَهْلِ هَذَا جَزَاءُ امْرِئٍ أَقْرَانُهُ دَرَجُوا مِنْ قَبْلِهِ فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الْأَجَلِ فَإِنْ عَلَانِي مَنْ دُونِي فَلَا عَجَبٍ لِي أُسْوَةٌ بِانْحِطَاطِ الشَّمْسِ عَنْ زُحَلِ . فَإِنَّ الشَّمْسَ أَشْرَفُ الْكَوَاكِبِ , وَهِيَ كَالْمَلِكِ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ كَالْأَعْوَانِ وَالْجُنُودِ , وَالْقَمَرُ كَالْوَزِيرِ وَوَلِيِّ الْعَهْدِ , وَعُطَارِدُ كَالْكَاتِبِ , وَالْمِرِّيخُ كَصَاحِبِ الْجَيْشِ الَّذِي عَلَى الشُّرْطَةِ , والمشتري كَالْقَاضِي , وَزُحَلُ صَاحِبُ الْخَزَائِنِ وَالزُّهْرَةُ كَالْخَدَمِ وَالْجَوَارِي . فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ السَّبْعَةُ السَّيَّارَةُ . فَالشَّمْسُ مَعَ عُلُوِّ شَأْنِهَا وَقُوَّةِ سُلْطَانِهَا فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ , وَزُحَلُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَإِنَّمَا نَفَى الْعَجَبَ مِنْ تَقَدُّمِ الْأَوْغَادِ وَالسُّفَّلِ عَلَيْهِ مَعَ نَقْصِهِمْ وَنُزُولِهِمْ عَنْ عُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ وَرُسُوخِ قَدَمِهِ ; لِأَنَّ هَذِهِ عَادَةُ الدَّهْرِ بِتَقْدِيمِ الْمَفْضُولِ عَلَى الْفَاضِلِ . كَانْحِطَاطِ الشَّمْسِ إلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ عَلَى شَرَفِهَا وَانْتِفَاعِ الْعَالَمِ بِهَا وَارْتِفَاعِ زُحَلٍ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ النُّجُومِ الْخُنَّسِ حَتَّى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُهُ .
وَأَنَّ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ (الرَّابِعُ) قَدْ وَلِعَ النَّاسُ فِي شَكْوَى الزَّمَانِ وَالدَّهْرِ وَالْأَوَانِ , وَيَنْسِبُونَ إلَيْهِ الْإِذْلَالَ وَالْإِعْزَازَ , والتمادي وَالْإِنْجَازَ , وَالتَّأْخِيرَ وَالتَّقْدِيمَ , وَالْمُهَانَةَ وَالتَّكْرِيمَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ , وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ اعْتِرَاضٌ عَلَى الصَّانِعِ جَلَّ شَأْنُهُ , كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَافِظِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ , بَلْ هُوَ صَرِيحُ كَلَامِهِ سَتَقِفُ عَلَيْهِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ صَرَّحَ بِالِاعْتِرَاضِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ . وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ " يَسُبُّ بَنُو آدَمَ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ " . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ , وَإِذَا شِئْت قَبَضَتْهُمَا " . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ " لَا يَسُبُّ أَحَدُكُمْ الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ " . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ " لَا تُسَمُّوا الْعِنَبَ الْكَرْمَ , وَلَا تَقُولُوا خَيْبَةَ الدَّهْرِ , فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ " . وَرَوَى أَبُو غِذَاء وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَقُولُ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ , فَلَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنِّي أَنَا الدَّهْرُ , أُقَلِّبُ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ " . وَرَوَاهُ مَالِكٌ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ , فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ " . وَفِي رِوَايَةٍ لِلْحَاكِمِ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ " اسْتَقْرَضْت عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي , وَشَتَمَنِي عَبْدِي وَهُوَ لَا يَدْرِي , يَقُولُ وَادْهَرَاهُ وَادْهَرَاهُ , وَأَنَا الدَّهْرُ " . إلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فِي النَّهْيِ عَنْ سَبِّ الدَّهْرِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ عَلَى ضَرْبٍ عَنْ الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ تَبَرُّمٍ وَلَا انْزِعَاجٍ , بَلْ يُبْدِي الْحِكْمَةَ و يُسْنِدُ الْفِعْلَ لِلَّهِ تَعَالَى , كَقَوْلِ حُسَيْنٍ الْمَمْلُوكِ رحمه الله تعالى: كَمْ مِنْ جَهُولٍ فِي الْغِنَى مُكْثِرُ وَمِنْ عَلِيمٍ فِي عَنَاءٍ مُقِيمُ قَدْ حَارَتْ الْأَفْكَارُ فِي سِرِّ ذَا وَطَاشَتْ النَّاسُ فَقَالَ الْحَكِيمُ لَا يُسْأَلُ الْخَلَّاقُ عَنْ فِعْلِهِ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمُ وَأَمَّا مَنْ اعْتَرَضَ عَلَى اللَّهِ فَقَدْ عَدِمَ التَّوْفِيقَ , وَخَلَعَ عَنْ عُنُقِهِ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ وَالتَّصْدِيقِ , فَهُوَ مُضِلٌّ ضَالٌّ زِنْدِيقٌ . وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي صَيْدِ الْخَاطِرِ: مَا رَأَتْ عَيْنِي مُصِيبَةً نَزَلَتْ بِالْخَلْقِ أَعْظَمَ مِنْ سَبِّهِمْ لِلزَّمَانِ وَعَيْبِهِمْ لِلدَّهْرِ . وَقَدْ كَانَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ " وَمَعْنَاهُ أَنْتُمْ تَسُبُّونَ مَنْ فَرَّقَ شَمْلَكُمْ وَأَمَاتَ أَهَالِيِكُمْ وَتَنْسُبُونَهُ إلَى الدَّهْرِ , وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ . فَتَعَجَّبْت كَيْفَ أُعْلِمُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْحَالِ وَهُمْ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مَا يَتَغَيَّرُونَ , حَتَّى رُبَّمَا اجْتَمَعَ الْفُطَنَاءُ الْأُدَبَاءُ الظِّرَافُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُغُلٌ إلَّا ذَمَّ الدَّهْرِ , وَرُبَّمَا جَعَلُوا اللَّهَ الدُّنْيَا وَيَقُولُونَ فَعَلَتْ وَصَنَعَتْ , حَتَّى رَأَيْت لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَرِيرِيِّ: وَلَمَّا تَعَامَى الدَّهْرُ وَهُوَ أَبُو الْوَرَى عَنْ الرُّشْدِ فِي إيجَابِهِ وَمَقَاصِدِهِ تَعَامَيْت حَتَّى قِيلَ إنِّي أَخُو عَمَى وَلَا غَرْوَ أَنْ يَحْذُوَ الْفَتَى حَذْوَ وَالِدِهِ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَقَدْ رَأَيْت خَلْقًا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فُقَهَاءُ وَفُهَمَاءُ وَلَا يَتَحَاشَوْنَ مِنْ هَذَا , وَهَؤُلَاءِ إنْ أَرَادُوا بِالدَّهْرِ مُرُورَ الزَّمَانِ فَذَاكَ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا مُرَادَ , وَلَا يَعْرِفُ رُشْدًا مِنْ ضَلَالٍ , وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَامَ فَإِنَّهُ زَمَانٌ مُدَبَّرٌ لَا مُدَبِّرٌ , فَيُتَصَرَّفُ فِيهِ وَلَا يَتَصَرَّفُ , وَمَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمَذْمُومَ الْمُعْرِضَ عَنْ الرُّشْدِ الْمُسِيءَ الْحُكْمَ هُوَ الزَّمَانُ , فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ وَنَسَبُوا هَذِهِ الْقَبَائِحَ إلَى الصَّانِعِ , فَاعْتَقَدُوا فِيهِ قُصُورَ الْحِكْمَةِ وَفِعْلَ مَا لَا يَصْلُحُ . كَمَا اعْتَقَدَهُ إبْلِيسُ فِي تَفْضِيلِ آدَمَ . وَهَؤُلَاءِ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَ هَذَا اعْتِقَادُ إسْلَامٍ وَلَا فِعْلُ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ . بَلْ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْكُفَّارِ . ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ رحمه الله وَرَضِيَ عَنْهُ . وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: تَأَمَّلْت عَلَى قَوْمٍ يَدْعُونَ الْعُقُولَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى حِكْمَةِ الْخَالِقِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ , فَيَبْقَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَعْطَاهُمْ الْكَمَالَ , وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالنَّقْصِ . هَذَا الْكُفْرُ الْمَحْضُ الَّذِي يَزِيدُ فِي الْقُبْحِ عَلَى الْجَحْدِ . فَأَوَّلُ الْقَوْمِ إبْلِيسُ فَإِنَّهُ رَأَى بِعَقْلِهِ أَنَّ جَوْهَرَ النَّارِ أَشْرَفُ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ فَرَدَّ حِكْمَةَ الْخَالِقِ . وَمَرَّ عَلَى هَذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُعْتَرِضِينَ مِثْلُ ابْنِ غِذَاء غِذَاء . قَالَ وَهَذَا غِذَاء اللَّعِينُ يَقُولُ كَيْفَ يُعَابُ ابْنُ الْحَجَّاجِ بِالسُّحْقِ وَالدَّهْرُ أَقْبَحُ فِعْلًا مِنْهُ , أَتُرَى يَعْنِي بِهِ الزَّمَانَ كَلَّا , فَإِنَّ مَمَرَّ الْأَوْقَاتِ لَا تَفْعَلُ شَيْئًا وَإِنَّمَا هُوَ , فَكَانَ يَسْتَعْجِلُ الْمَوْتَ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَرِيحُ . وَكَانَ يُوصِي بِتَرْكِ النِّكَاحِ وَالنَّسْلِ , وَلَا يَرَى فِي الْإِيجَادِ حِكْمَةً إلَّا الْعَنَاءَ وَالتَّعَبَ وَمَصِيرُ الْأَبَدَانِ إلَى الْبِلَى , وَهَذَا لَوْ كَانَ كَمَا ظَنَّ كَانَ الْإِيجَادُ عَبَثًا وَالْحَقُّ مُنَزَّهٌ عَنْ الْعَبَثِ . قَالَ تَعَالَى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا فَإِذَا كَانَ مَا خُلِقَ لَنَا لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا أَفَنَكُونُ نَحْنُ وَنَحْنُ مَوَاطِنُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَالُّ تَكْلِيفِهِ قَدْ وُجِدْنَا عَبَثًا؟ ! . .
مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: رَأَيْت كَثِيرًا مِنْ المتغفلين يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ السُّخْطُ بِالْأَقْدَارِ وَفِيهِمْ مَنْ قَلَّ إيمَانُهُ فَأَخَذَ يَعْتَرِضُ , وَفِيهِمْ مَنْ خَرَجَ إلَى الْكُفْرِ , وَرَأَى أَنَّ مَا يَجْرِي كَالْعَبَثِ , وَقَالَ مَا فَائِدَةُ الْإِعْدَامِ بَعْدَ الْإِيجَادِ . وَالِابْتِلَاءِ مِمَّنْ هُوَ غَنِيٌّ عَنْ أَذَانَا . فَقُلْت لِبَعْضِ مَنْ كَانَ يَرْمِزُ إلَى هَذَا: إنْ حَضَرَ عَقْلُك وَقَلْبُك حَدَّثْتُك . وَإِنْ كُنْت تَتَكَلَّمُ بِمُجَرَّدِ وَاقِعَتِك مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا إنْصَافٍ فَالْحَدِيثُ مَعَك ضَائِعٌ . وَيْحَكَ أَحْضِرْ عَقْلَك وَاسْمَعْ مَا أَقُولُ . أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ مَالِكٌ وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ كَيْفَ شَاءَ . أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ حَكِيمٌ وَالْحَكِيمُ لَا يَعْبَثُ . وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ فِي نَفْسِك مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْئًا , فَإِنَّهُ قَدْ سَمِعْنَا عَنْ غِذَاء أَنَّهُ قَالَ مَا أَدْرِي أَحَكِيمٌ هُوَ أَمْ لَا . وَالسَّبَبُ فِي قَوْلِ هَذَا أَنَّهُ رَأَى نَقْضًا بَعْدَ إحْكَامٍ . فَقَاسَ الْحَالَ عَلَى أَحْوَالِ الْخَلْقِ . وَهُوَ أَنَّ مَنْ بَنَى ثُمَّ نَقَضَ لَا لِمَعْنًى فَلَيْسَ بِحَكِيمٍ . وَجَوَابُهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا أَنْ يُقَالَ بِمَاذَا بَانَ لَك أَنَّ النَّقْضَ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ . أَلَيْسَ بِعَقْلِك الَّذِي وَهَبَهُ الصَّانِعُ لَك وَكَيْفَ يَهَبُ لَك الذِّهْنَ الْكَامِلَ وَيَفُوتُهُ هُوَ الْكَمَالُ . وَهَذِهِ الْمِحْنَةُ الَّتِي جَرَتْ غِذَاء فَإِنَّهُ أَخَذَ بِعَيْبِ الْحِكْمَةِ بِعَقْلِهِ . فَلَوْ تَفَكَّرَ عَلِمَ أَنَّ وَاهِبَ الْعَقْلِ أَعْلَى مِنْ الْعَقْلِ . وَأَنَّ حِكْمَتَهُ أَوْفَى مِنْ كُلِّ حَكِيمٍ ; لِأَنَّهُ بِحِكْمَتِهِ التَّامَّةِ أَنْشَأَ الْعُقُولَ . فَهَذَا إذَا تَأَمَّلَهُ الْمُنْصِفُ زَالَ عَنْهُ الشَّكُّ . وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إلَى نَحْوِ هَذَا فِي قوله تعالى فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ نُضِيفَ الْعَجْزَ عَنْ فَهْمِ مَا يَجْرِي إلَى أَنْفُسِنَا . وَنَقُولَ هَذَا فِعْلُ عَالِمٍ حَكِيمٍ , وَلَكِنْ مَا تَبَيَّنَ لَنَا مَعْنَاهُ . وَلَيْسَ هَذَا بِعَجَبٍ . فَإِنَّ مُوسَى عليه السلام خَفِيَ عَلَيْهِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي نَقْضِ السَّفِينَةِ الصَّحِيحَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ الْجَمِيلِ , فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُ الْخَضِرُ وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَذْعَنَ . فَلْنَكُنْ مَعَ الْخَالِقِ كَمُوسَى مَعَ الْخَضِرِ . أَلَسْنَا نَرَى الْمَائِدَةَ الْمُسْتَحْسَنَةَ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ فَنُونِ الطَّعَامِ النَّظِيفِ الظَّرِيفِ يُقَطَّعُ وَيُمْضَغُ وَلَا يُنْكَرُ الْإِفْسَادُ لَهُ , لِعِلْمِنَا بِالْمَصْلَحَةِ الْبَاطِنَةِ فِيهِ , فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ لَهُ بَاطِنٌ لَا نَعْلَمُهُ . وَمِنْ أَجْهَلِ الْجُهَّالِ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إذَا طَلَبَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى سِرِّ مَوْلَاهُ , فَإِنَّ فَرْضَهُ التَّسْلِيمُ لَا الِاعْتِرَاضُ . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الِابْتِلَاءِ بِمَا تُنْكِرُهُ الطِّبَاعُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ إذْعَانَ الْعَقْلِ وَتَسْلِيمَهُ لَكَفَى . قَالَ: وَلَقَدْ تَأَمَّلْت حَالَةً عَجِيبَةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْتِ هِيَ , وَذَلِكَ أَنَّ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ فِي غَيْبٍ لَا يُدْرِكُهُ الْإِحْسَاسُ , فَلَوْ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُضْ هَذِهِ الْبِنْيَةَ لَتَخَايَلَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ صُنْعٌ لَا يُصَانَعُ فَإِذَا وَقَعَ الْمَوْتُ عَرَفَتْ النَّفْسُ نَفْسَهَا الَّتِي كَانَتْ لَا تَعْرِفُهَا لِكَوْنِهَا فِي الْجَسَدِ , وَتُدْرِكُ عَجَائِبَ الْأُمُورِ بَعْدَ رَحِيلِهَا , فَإِذَا رُدَّتْ إلَى الْبَدَنِ عَرَفَتْ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنْ أَعَادَهَا , وَتَذَكَّرَتْ حَالَهَا فِي الدُّنْيَا , فَإِنَّ الْأَذْكَارَ تُعَادُ كَمَا تُعَادُ الْأَبْدَانُ , فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ وَمَتَى رَأَتْ مَا قَدْ وُعِدَتْ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ , أَيْقَنَتْ يَقِينًا لَا شَكَّ مَعَهُ , وَلَا يَحْصُلُ هَذَا بِإِعَادَةِ مَيِّتٍ سِوَاهَا , وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهَا , فَيَبْنِي بِنِيَّةِ تَقَبُّلِ الْبَقَاءِ , وَيَسْكُنُ جَنَّةً لَا يَنْقَضِي دَوَامُهَا . فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ الْيَقِينُ أَنْ تُجَاوِرَ الْحَقَّ ; لِأَنَّهَا آمَنَتْ بِمَا وَعَدَ , وَصَبَرَتْ بِمَا ابْتَلَى , وَسَلَّمَتْ لِأَقْدَارِهِ فَلَمْ تَعْتَرِضْ , وَرَأَتْ فِي غَيْرِهَا الْعِبَرَ ثُمَّ فِي نَفْسِهَا , فَهَذِهِ هِيَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} فَأَمَّا الشَّاكُّ وَالْكَافِرُ فَيَحِقُّ لَهُمَا الدُّخُولُ إلَى النَّارِ وَاللُّبْثُ فِيهَا ; لِأَنَّهُمَا رَأَيَا الْأَدِلَّةَ وَلَمْ يَسْتَفِيدَا , وَنَازَعَا الْحَكِيمَ وَاعْتَرَضَا عَلَيْهِ , فَلَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالدَّلِيلِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْمَوْتِ وَالْإِعَادَةِ . وَدَلِيلُ بَقَاءِ الْخُبْثِ فِي الْقُلُوبِ قوله تعالى
فَنَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَقْلًا مُسْلِمًا يَقِفُ عَلَى حَدِّهِ , وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى خَالِقِهِ ثُمَّ الْوَيْلُ لِلْمُعْتَرِضِ أَيَرُدُّ اعْتِرَاضُهُ الْأَقْدَارَ . فَمَا يَسْتَفِيدُ إلَّا الْخِزْيَ , نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ . .
وَاعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ مَقَامٌ عَظِيمٌ . وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ . فَإِذَا عَرَفْته رَضِيت بِقَضَائِهِ . وَقَدْ يَجْرِي فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ مَرَارَاتٌ يَجِدُ بَعْضَ طَعْمِهَا الرَّاضِي . وَأَمَّا الْعَارِفُ فَتَقِلُّ عِنْدَهُ الْمَرَارَةُ لِقُوَّةِ حَلَاوَةِ الْمَعْرِفَةِ . فَإِذَا تَرَقَّى بِالْمَعْرِفَةِ إلَى الْمَحَبَّةِ صَارَتْ مَرَارَةُ الْأَقْدَارِ حَلَاوَةً . كَمَا قِيلَ: عَذَابُهُ فِيك عَذْبٌ وَبُعْدُهُ فِيك قُرْبٌ وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ حَسْبِي مِنْ الْحُبِّ أَنِّي لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ فِي الْمَعْنَى: وَيَقْبُحُ عَنْ سِوَاك الْفِعْلُ عِنْدِي فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْك غِذَاء وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّضَا إنَّمَا يُمْدَحُ حَيْثُ كَانَ بِمَا مِنْ اللَّهِ مِثْلَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ . وَأَمَّا بِالْكَسَلِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا . فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْك . وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ ارْضَ بِمَا مِنْهُ لَا بِمَا مِنْك . فَأَمَّا الْكَسَلُ وَالتَّخَلُّفُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْك فَلَا تَرْضَ بِهِ مِنْ فِعْلِك . وَكُنْ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ عَلَيْك . مُنَاقِشًا نَفْسَك فِيمَا يُقَرِّبُك مِنْهُ , غَيْرَ رَاضٍ مِنْهَا بِالتَّوَانِي فِي الْمُجَاهَدَةِ وَأَمَّا مَا يَصْدُرُ مِنْ أَقْضِيَتِهِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لَك فِيهَا فَكُنْ رَاضِيًا بِهَا . كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهَا رَجُلٌ مِنْ الْعُبَّادِ يَلْتَقِطُ مِنْ مَزْبَلَةٍ فَيَأْكُلُ . فَقِيلَ هَلَّا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا؟ فَقَالَتْ إنَّ الرَّاضِي لَا يَتَخَيَّرُ . وَمَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْمَعْرِفَةِ وَجَدَ فِيهِ طَعْمَ الْمَحَبَّةِ . فَوَقَعَ الرِّضَا عِنْدَهُ ضَرُورَةً . فَيَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدِلَّةِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ بِالْجِدِّ فِي الْخِدْمَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ . فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى " لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ , فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ , وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ " فَذَلِكَ الْغِنَى الْأَكْبَرُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
|