الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: الأول: أن يكون المراد منه كون الإنسان دائم الذكر لربه، فإن الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه ألبتة. والقول الثاني: أن المراد من الذكر الصلاة، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام، فإن عجزوا ففي حال القعود، فإن عجزوا ففي حال الاضطجاع، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال، والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله». اهـ. .قال ابن عاشور: وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى. اهـ. .قال القرطبي: وروى النَّسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي متربّعًا. قال أبو عبد الرحمن: لا أعلم أحدًا روى هذا الحديث غير أبي داود الحَفَرِيّ وهو ثقة، ولا أحسَب هذا الحديث إلا خطأ، والله أعلم. واختلف العلماء في كيفية صلاة المريض والقاعد وهيئتها؛ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك أنه يتربّع في قيامه، وقاله البُوَيْطِيّ عن الشافعيّ. فإذا أراد السجود تهيّأ للسجود على قدر ما يطيق، قال: وكذلك المتنفل. ونحوه قول الثوري، وكذلك قال الليث وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وقال الشافعيّ في رواية المُزَنيّ: يجلس في صلاته كلها كجلوس التشهد. وُروي هذا عن مالك وأصحابِه؛ والأوّل المشهور وهو ظاهر المدوّنة. وقال أبو حنيفة وزفر: يجلس كجلوس التشهد، وكذلك يركع ويسجد. قال: فإن لم يستطع القعود صلَّى على جنبه أو ظهره على التخيير؛ هذا مذهب المدوّنة وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم يصلِّي على ظهره، فإن لم يستطع فعلى جنبه الأيمن ثم على جنبه الأيسر. وفي كتاب ابن الموّاز عكسه، يصلِّي على جنبه الأيمن، وإلا فعلى الأيسر، وإلا فعلى الظهر. وقال سحنون: يصلِّي على الأيمن كما يجعل في لحده، وإلا فعلى ظهره وإلا فعلى الأيسر. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا صلَّى مضطجعًا تكون رجلاه مما يلي القِبلة. والشافعيّ والثوريّ: يصلي على جنبه ووجهه إلى القِبلة. فإن قوِي لخفة المرض وهو في الصلاة؛ قال ابن القاسم: أنه يقوم فيما بقي من صلاته ويبنِي على ما مضى؛ وهو قول الشافعيّ وزفر والطبريّ. وقال أبو حنيفة وصاحباه يعقوب ومحمد فيمن صلَّى مضطجعًا ركعة ثم صحّ: أنه يستقبل الصلاة من أوّلها، ولو كان قاعدًا يركع ويسجد ثم صحّ بنى في قول أبي حنيفة ولم يَبْنِ في قول محمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا افتتح الصلاة قائمًا ثم صار إلى حدّ الإيماء فليَبْن؛ وروى عن أبي يوسف. وقال مالك في المريض الذي لا يستطيع الركوع ولا السجود وهو يستطيع القيام والجلوس: أنه يصلِّي قائمًا ويومئ إلى الركوع، فإذا أراد السجود جلس وأومأ إلى السجود؛ وهو قول أبي يوسف وقياس قول الشافعيّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يصلِّي قاعدًا. وأما صلاة الراقد الصحيح فروي من حديث عِمران بن حصين زيادة ليست موجودة في غيره، وهي: «صلاة الراقد مثل نصف صلاة القاعد». قال أبو عمر: وجمهور أهل العلم لا يُجيزُون النافلَة مضطجعًا؛ وهو حديث لم يروه إلا حسين المعلِّم وهو حسين ابن ذَكْوان عن عبد الله بن برَيْدة عن عِمران بن حصين، وقد اختلف على حسين في إسناده ومتنه اختلافا يوجب التوقف عنه، وإن صحّ فلا أدري ما وجهه؛ فإن كان أحد من أهل العلم قد أجاز النافلة مضطجعًا لمن قدر على القعود أو على القيام فوجهه هذه الزيادة في هذا الخبر، وهي حجة لمن ذهب إلى ذلك. وإن أجمعوا على كراهة النافلة راقدًا لمن قدر على القعود أو القيام، فحديث حسين هذا إمّا غلط وإما منسوخ. وقيل: المراد بالآية الذين يستدلون بخلق السموات والأرض على أن المتغيِّر لابد له من مُغيِّر، وذلك المغير يجب أن يكون قادرًا على الكمال، وله أن يبعث الرسل، فإن بعث رسولًا ودل على صدقه بمعجزة واحدة لم يبق لأحد عذر؛ فهؤلاء هم الذين يذكرون الله على كل حال، والله أعلم. اهـ. بتصرف يسير. .قال الفخر: .قال أبو حيان: ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل. ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زمانًا، فبدئ بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود، ثم بالقعود إذ زمانه أطول، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود. ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع، وهو مقابل لزمان القعود والقيام، وهو النهار؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة. فمن قدر على القيام لا يصلي قاعدًا، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعًا، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية، إذ الأفضل التنفل قائمًا ثم قاعدًا ثم مضطجعًا. وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى: يذكرون الله قيامًا بأوامره، وقعودًا عن زواجره، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه. وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب، وقريب من الباطنية. اهـ. .قال الفخر: واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الإنسان مستلقيًا على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر، وأما كونه مضطجعًا على الجنب فإنه غير مانع منه، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق، فكان هذا الوضع أولى، لكونه أقرب إلى اليقظة، وإلى الاشتغال بالذكر. اهـ. قال الفخر: اعلم أنه تعالى رغب في ذكر الله، ولما آل الأمر إلى الفكر لم يرغب في الفكر في الله، بل رغب في الفكر في أحوال السموات والأرض، وعلى وفق هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق» والسبب في ذلك أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة، إنما يمكن وقوعه على نعت المخالفة، فإذن نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبكميتها وكيفيتها وشكلها على براءة خالقها عن الكمية والكيفية والشكل، وقوله عليه الصلاة والسلام: «من عرف نفسه عرف ربه» معناه من عرف نفسه بالحدوث عرف ربه بالقدم، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب، ومن عرف نفسه بالحاجة عرف ربه بالاستغناء، فكان التفكر في الخلق ممكنا من هذا الوجه، أما التفكر في الخالق فهو غير ممكن ألبتة، فإذن لا يتصور حقيقته إلا بالسلوب فنقول: أنه ليس بجوهر ولا عرض، ولا مركب ولا مؤلف، ولا في الجهة، ولا شك أن حقيقته المخصوصة مغايرة لهذه السلوب، وتلك الحقيقة المخصوصة لا سبيل للعقل إلى معرفتها فيصير العقل كالواله المدهوش المتحير في هذا الموقف فلهذا السبب نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكر في الله، وأمر بالتفكر في المخلوقات، فلهذه الدقيقة أمر الله في هذه الآيات بذكره، ولما ذكر الفكر لم يأمر بالتفكر فيه، بل أمر بالفكر في مخلوقاته. اهـ. .قال الألوسي: وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال: سمعت غير واحد لا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر في خلق السموات والأرض ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعًا: «تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة» إما للإيذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير إليه، وإما للإشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب. اهـ. .قال أبو السعود:
|