الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله: {وعلى المولود له رزقهن} وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله: {لا تضار والدة بولدها} كما سيأتي، وهو بعيد عن الاستعمال؛ لأنه لما كان الفاعل محذوفًا وحكم الفعل في سياق النهي كما هو في سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أيًا ما كان فاعله، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب، على أن ظاهر المِثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم. وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة وارثًا أن الذي كان ذلك عليه مات، وهذا إيجاز. والمعنى: فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه. فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضًا عن المضاف إليه كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكورًا بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى: {لئن لم ينته لنسفعا بالناصية} [العلق: 15] وكما قال: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 40 41] أي نهى نفسه؛ فإن الجنة هي مأواه، وقول إحدى نساء حديث أم زرع: «زوجي المَسُّ مَسُّ أَرْنَب والرِّيح رِيح زَرْنَب» وما سماه الله تعالى وارثًا إلاّ لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثًا على تقدير موت غيره؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال: {وعلى الوارث} إلاّ لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلاّ لقال: وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلامًا تأكيدًا حينئذٍ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص؛ فإن فاعل {تضار} محذوف. اهـ. .قال البقاعي: قال الحرالي: فأفصح بإشعار ما في قوله: {أن يتم} وأن الكفاية قد تقع بدون الحولين فجعل ذلك لا يكون بريًا من المضارة إلا باجتماع إرادتهما وتراضيهما وتشاورهما لمن له تبصرة لئلا تجتمعا على نقص الرأي، قال عليه الصلاة والسلام: «ما خاب من استخار ولا ندم من استشار» والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خلايا الصدور كما يشور العسل جانيه- انتهى. {فلا جناح عليهما} فيما نقصاه عن الحولين لأنهما غير متهمين في أمره واجتماع رأيهما فيه ورأي من يستشيرانه قلّ ما يخطىء. قال الحرالي: فيه إشعار بأنها ثلاث رتب: رتبة تمام فيها الخير والبركة، ورتبة كفاية فيها رفع الجناح، وحالة مضارة فيها الجناح- انتهى. وقد أفهم تمام هذه العناية أن الإنسان كلما كان أضعف كانت رحمة الله له أكثر وعنايته به أشد. اهـ. .قال الفخر: واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار، ثم اختلفوا فمنهم من قال: المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال: إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز، وبعده أيضًا جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضًا دليلًا على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط. وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفًا فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب، والله أعلم. القول الثاني: في تفسير الفصال، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال: ويحتمل معنى آخر، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد. اهـ. .قال ابن عاشور: .قال ابن عرفة: وتقدم لنا سؤال وهو أن التراضي سبب عن التشاور لأن المشورة تحصّل التراضي أو عدمه فكان الأنسب تقديم التشاور على التراضي. قال: وتقدم الجواب بأنه أفاد عدم الاقتصار على تراضيهما فإذا تراضيا على الفصال وكانت مشورتهما للغير تنتج أن المصلحة في عدم الفصال فلا عبرة بما تراضيا عليه. قيل لابن عرفة: أو يجاب بأنّه لو قيل: عن تشاور وتراض، لأفاد تبعية أحدهما للآخر فإن المستشير أضعف رتبة من المستشار فقدم الرضى ليفيد اعتبار رضاهما معا من غير تبعية؟ فقال ابن عرفة: ليس في الآية أن أحدهما يستشير مع الآخر وإنّما يَسْتَشِيرَانِ مع الأجنبي. قال ابن عرفة: وعبر بإنْ دون إِذَا لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال أقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع، فكأنه غير واقع، أو يكون أفاد أنّه غير مرجوح شرعا. وعبر في الثاني بإذا لأن استرضاع الولد للأجنبية مرجوح بالنسبة إلى إرضاع أمه. قيل لابن عرفة: ما الفائدة في هذه الآية مع أن معناها مستفاد من قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فمفهومها أن من لم يرد الإتمام فلا جناح عليه في الفصال. فقال: هذا جاء احتراسا لأن مفهوم تلك أن من أراد الفصال له ذلك فاقتضت الآية هذه اعتبار رضاهما معا بذلك. فقيل: قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد هذا لأنه إن أراد أحدهما الفصال وأراد الآخر الإتمام لم يتراضيا معا بالفصال؟ فقال: أفادت هذه زيادة الأمر بمشورتهما غيرهما. قال: وقوله: {تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} ولم يقل: عن تراضيهما، ليفيد التفسير بعد الإتمام كما قال الزمخشري في قوله الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}. دليل على مرجوحية الفصال لأن اللّفظ غالب استعماله في فعل المرجوح. اهـ. .قال الفخر: .قال ابن عاشور: والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعًا فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره: بماذا تشير عليَّ كأنَّ أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع، مشتق من الإشارة باليد، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه، ثم عدي بعلى لما ضمن معنى التدبير، وقال الراغب: إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه، وأيًا ما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور. اهـ. .قال البقاعي: ولما كان التقدير: فافعلوا جميع ما أمرتكم به وانتهوا عن جميع ما نهيتكم عنه فقد جمعت لكم مصالح الدارين في هذا الكتاب الذي هو هدى للمتقين، عطف عليه قوله: {واتقوا الله} أي الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل ثم خوفهم سطواته بقوله منبهًا على عظم هذه الأحكام {واعلموا} وعلق الأمر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى فقال: {أن الله} أي المحيط بصفات الكمال تعظيمًا للمقام ولذلك أكد علمه سبحانه وتعالى هنا على نحو ما مضى في {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} [البقرة: 215] بتقديم قوله للإعلام بمزيد الاهتمام {بما تعملون} أي من سر وعلن. ولما كانت هذه الأحكام أدق مما في الآية التي بعدها وكثير منها منوط بأفعال القلوب ختمها بما يدل على البصر والعلم فقال: {بصير} أي بالغ العلم به فاعملوا بحسب ذلك. اهـ.
|